تزاحمت في الأسابيع الأخيرة اتصالات ولقاءات التقارب بين حركتي فتح وحماس بوتيرة فرضتها خطورة المرحلة الحالية التي تمرّ بها القضية الفلسطينية، وتوّجت هذه اللقاءات بمحادثات مباشرة في تركيا في 24 سبتمبر الماضي؛ وأعلنت الحركتان في ختامها أنهما اتفقتا على رؤية تتعلق بإنهاء الانقسام وتوحيد الصفّ، وأكدتا أن هذه الرؤية ستعرض قريبًا ضمن حوار وطني شامل.
المتتبع الحراك الجاري في مسار التوافق يلاحظ حجم الدفع الذي تمارسه حماس لإنضاج التوافق، وحرصها على عدم تكرار الفشل، وتبدو حماس في ذلك كمثل صيّاد يسعى خلف طرائده.
ظهر هذا الحرص في الخطاب السياسي للحركة على لسان أكثر من قائد ومتحدّث فيها، راهنوا على أنه لا عودة هذه المرّة عن التوافق استجابة وطنية مُلحّة؛ لمواجهة الخطر الحقيقي الذي يهدد القضية.
وقد علمت من مسؤول سياسي في حماس، مُطّلع على المحادثات، أن الحركة هي من بادرت إلى فتح قنوات التقارب الأخير مع "فتح"، في وقت كانت تشير فيه الأصابع بذلك نحو الأخيرة، خيارًا اضطراريًّا فرضه الموقف السياسي الصعب التي تمرّ به، والخطر الجاد الذي يهدد السلطة الفلسطينية ومستقبلها.
وهنا، قد يسأل أحدهم: ما الذي يدعو حماس إلى إظهار المروءة الآن، والمبادرة إلى "إستراتيجية إنقاذ" قد يستخدمها خصومها "قارب عبور" فقط من هذه المرحلة دون عوائد وطنية من هذا التوافق؟
توجد عدة أسباب تسوغ سعي حماس إلى هذا التوافق والعمل له بجدّ، في مقدمتها أن الشراكة الوطنية وقبول الآخر يمثل إستراتيجية لديها، منقوشة في أدبياتها السياسية، ولم تسقطه من خطابها السياسي حتى في أوج الابتعاد بين الحركتين، بمعنى أنه سلوك أصيل وليس طارئًا، وهذا ما يسجّل للحركة، وتقتضي المسؤولية ذكره.
أيضًا الواقع الجغرافي وحال القاعدة التنظيمية للحركة بالضفة والقيود الأمنية والسياسية المزدوجة، وحجم الإنهاك الناجم عن سياسة الباب الدوّار، كل ذلك يشكّل عامل ضغط على الحركة، يجعل التوافق فرصة للتنفيس عن أنصارها هناك تحت غطاء الحريات العامة، فيبدو كل توافق مع فتح أشبه بإفراج بكفالة لكوادر حماس، لذا إن هذا الملف الأكثر إلحاحًا على الحركة.
وقد أعلنت حماس، في 19 سبتمبر الماضي، أن السلطة قررت "وقف الاعتقال السياسي" بالضفة؛ على خلفية تشكيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية، ما عده عضو مكتبها السياسي حسام بدران "مطلبًا دائمًا على المستوى الشعبي والفصائلي"، قائلًا: "إننا في مرحلة حساسة تتطلب إعطاء الحريات أولوية كبرى".
ويوازي ذلك أهمية إدراك حماس أن التوافق الوطني هو المدخل لإعادة لملمة الموقف العربي وترتيب صفوفه، ومحاولة خلق حالة فلسطينية تغطي على حقيقة أننا أول من زرع التطبيع وسقى تربته بانقسامنا الذي هو رغبة إسرائيلية وهدف أساسي لبنيامين نتنياهو يحاول الإبقاء عليه، وهو ما يدعو حماس إلى العمل ضد هذه الرغبة.
وتنطلق في ذلك بمحاولة تجاوز عراقيل لقاءات الأمس المتعثّرة، ابتداء بخلق مقاربة وسطية متوافق عليها، وهي "المقاومة الشعبية"، وهو طرح تعتقد أنه يقف في الوسط بين مطلب المقاومة المسلحة ونبذها.
لذلك، نتج عن اتفاق الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية خلال اجتماعهم برام الله وبيروت في 3 سبتمبر الماضي إعلان ميلاد "القيادة الفلسطينية الموحدة للمقاومة الشعبية"، التي أصدرت منتصف سبتمبر بيانًا حمل رقم (1)، ودعت فيه إلى "نبذ كل الخلافات الفلسطينية (...) والمشاركة في الكفاح الشعبي التحرري".
أيضًا ترى حماس أنها تملك تجربة واعدة في الوحدة الوطنية بقطاع غزة يمكن البناء عليها، عبر نموذج أكثر اتساعًا يشمل الضفة والخارج بمشاركة رسمية أكبر لحركة فتح، بديلًا وطنيًّا يستنهض الحالة الوطنية، ويقطع الطريق على محاولة جهات كبرى إعادة "هندسة القيادة الفلسطينية".
وتسعى الحركة إلى تجنيد هذه التوافق في مسح آثار الفشل الذي خلّفته الدبلوماسية الفلسطينية المثقلة بالفساد والمنشغلة بثرائها، وترى أن مقدمات ذلك إصلاح منظمة التحرير التي هي واحدة من ضحايا السلطة، لذلك تطالب الحركة بإجراء انتخابات المجلس الوطني (برلمان المنظمة) مقدّمة للمنافسة على قيادتها، وتفعيل وظيفتها الأساسية في تمثيل الفلسطينيين والتفاوض باسمهم، في وقت انتهى فيه حالها إلى أن تكون آخر من يعلم.
والحال نفسها مع النظام السياسي الفلسطيني العاجز، فيكون التوافق مدخلًا لإحداث إصلاحات فيه عبر بوابة الانتخابات التشريعية والرئاسية، على قاعدة الشراكة، بعد بناء المرجعيات الوطنية الواضحة له.
ويبدو مهمًّا الإشارة هنا إلى أن حماس نصّت في وثيقتها السياسية على أن "دور السلطة الفلسطينية يجب أن يكون في خدمة الشعب وحماية أمنه وحقوقه ومشروعه الوطني"، ويعني ذلك أن حماس لا ترى بديلًا عن السلطة، لكن بدور وظيفي خدمي محدد، لا ينازع منظمة التحرير صلاحياتها.
في مقابلته مع فضائية الأقصى مساء يوم 24 سبتمبر الماضي، ذكر القيادي في فتح جبريل الرجوب أن اللقاء مع قيادة حماس في تركيا عُقد في مقرّ السفارة الفلسطينية بإسطنبول، أي على أرض فلسطينية، وفي جولته إلى لبنان استقبل وفد رفيع من فتح وفد الحركة على رأسه رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية بمقر السفارة في بيروت، وفي مارس من هذا العام أيضًا زار هنية مقر السفارة في موسكو في إطار توحيد الجهود لرفض خطة ترامب.
قد يُفهم ذلك على أنه طموح لدى حماس إلى الهيمنة على النظام السياسي ومؤسساته، أو أن عينها عليه بعبارة أخرى، في حين الرابط الحقيقي بين كل ذلك هو مدى إدراكنا قيمة أن تكون حماس داخل البيت الفلسطيني الرسمي.
هذا التطور الحاصل على صعيد العلاقة بين الحركة والنظام يعكس إلى أي مدى أصبحت فيه الحركة فاعلًا سياسيًّا وازنًا ومؤثرًا، ومدى الخطأ في استمرار إبقاء الخصومة معها، وهو في الوقت نفسه يأتي تحقيقًا لخطاب الحركة باتجاه منظمة التحرير بيتًا معنويًّا وجامعًا لشعبنا، وأنها لا تفكر بطرح بديل عنه، لكنها تسعى من أجل "فتح أبواب المنظمة" وإصلاحها.
وهذا الطموح يعني أن الاختلاف سيبقى سائدًا مع امتلاك الحركة إستراتيجية واضحة بشأن المنظمة، غير متوافرة عمليًّا لدى أصحابها، ومع ذلك إن المستقبل برأيي هو صداقة أكبر بين حماس والنظام السياسي ينطلق من مبدأ أن القوة ضرورية لتقويم الاعوجاج.