لعلّنا لا نبالغ إن قلنا إنّ وجود الشيخ حسن يوسف خارج أسوار السجون، وفي ساحة الضفة الغربية، يضفي عليها حالة نسبية من التعافي، يلاحظها من يتابعه متحركاً في كل الاتجاهات، دون أن يمنح نفسه تلك البرهة الطبيعية من الراحة التي ينتظرها كلّ أسير، فيلتفت لنفسه قليلاً ويعيش أجواءً من الاستقرار ضمن محيطه، متنعماً بحريته، بعيداً عن كلّ ما قد يفضي به مجدداً إلى السجن.
يبدو الشيخ حسن يوسف هنا حالة استثنائية بحقّ، وهو يتحرر عملياً في كلّ مرة إلى الميدان، وليس إلى حياة الراحة والاستقرار، ولهذا لا نجده يمكث بضعة أشهر أو أسابيع خارج السجن، حتى يعود إليه من جديد، غير أن تلك الفترة الوجيزة التي يقضيها في الميدان كأنما تكتنفها بركة عجيبة، فيكون الشيخ خلالها علَماً وصاحب بصمة وتأثير، إما بمتابعة شأن سياسي شائك، أو بمواساة طائفة من المكلومين، أو بالتحدث بلسان حال كثيرين ممن باتوا يرون في وجوده وحركته وفاعليته عزاءهم.
بين أن يكون المرء قائداً وبين أن يكون فرداً فرق كبير، ولعلّ الشيخ حسن واحد من قلّة في ميدان الضفة الغربية يدركون واجبات القيادة واستحقاقاتها، فيؤدّون ضريبتها دونما تذمّر، منكرين ذواتهم، ومقدّمين عليها فكرتهم، بمعانيها ومتطلباتها وكُلفة الذود عنها كما ينبغي، وهذه القلة من القادة الميدانيين، وعلى رأسهم الشيخ حسن، فقهوا أن المسؤولية ليست منصباً شرفياً يضفي لَمَعاناً على اسم المرء وصورته، بل هي فعل والتزام وتحمّل، وهي أثر إيجابي في الصفوف الداخلية وفي عموم الشارع، وهي قبل كل شيء تجسيد لمعنى القدوة، باجتراح تعريف يليق بها، وما أشقّ الدروب إليها في ساحة مكبّلة ونازفة مثل الضفة الغربية!
لم يهنأ الشيخ حسن بلحظة راحة في آخر شهرين قضاهما حرًّا، قبل أن يُعاد اعتقاله، بل ظلّ يتلقى تهديدات من المحتلين، الذين يقلقهم حضور الشيخ حسن، وتُحيّرهم همته، ويخشون من آثارها. وقد كان الشيخ حسن يعي جيداً أنه لن يلبث طويلاً حتى يعود إلى السجن، فلم يرضَ أن تكون أيامه القليلة خارجه خالية من الأثر والفاعلية، وكلّ ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، شاهداً ومعلّماً وحاثّاً على الاقتداء.
يكفي أن تكلّم الشيخ حسن يوسف فور خروجه التالي من السجن –بإذن الله- لترى بهاء العزيمة وعلوّ الهمة في أبهى تجلياتهما، وكأنّ السجن ما صنع به شيئاً ولا مسّ روح الإقدام في نفسه، ولا أثقل وعيه بشحوب الأيام الثقال. وإزاء قامة ممعنة في سموّها كهذه تتضاءل في المرء كل نزعات الركون إلى الدنيا، وينتصب أمامه المثال، عصياً على المحاكاة، مترجِماً لرونق المعاني العتيقة، التي ذبُلت في نفوس كثيرة، أو طحنها تعب سنين مكابدة المحنة، أو زيّفها بريق بعض المواقع.
إنّ الأفكار العظيمة تظلّ تنتجب الجديرين بأن يكونوا النجوم الأدلّ عليها، والمستحقّين أن يظلوا خير ترجمان لها، ومعبّر عنها، فليست العبرة بكثرة السهام في كنانة الفكرة الماجدة، إنما بمضائها، ونقاء معدنها واستحالة تبدّله، وحسن إصابتها الهدف.