فلسطين أون لاين

صوت من وسط الظلام

للتجربة الأولى مذاق خاص، ورهبة يصعب وصفها في الوقت ذاته، فالخوف من المجهول يرافق الشخص في بداية طريقه حتى نهاية المشوار في المرة الأولى، ليصبح بعد ذلك كل شيء اعتياديًّا، إذ تتكون الخبرة ويتشكل الوعي، عام بلياليه هي المدة الزمنية التي استنفدتها مني كتابة روايتي الأولى "صوت من وسط الظلام"، كنت أحلم باقتحام عالم الرواية، فأتقدم خطوة، ولكن كانت الرهبة تغلبني فأتراجع خطوات إلى الوراء، برغم أن الحلم لا يزايلني، ولا ينفك يطاردني ليل نهار.

وكان المشوار الذي مشيه على مهل حتى اكتمل العمل الأدبي بكامل أركانه "صوت من وسط الظلام"، بعد أن التقيت أُمْنِيَة الحقيقية التي كتبتُ خلاصة حكايتها على لسان" أُمْنِيَة" بطلة الرواية، الفتاة التي فقدت بصرها في عامها الأول، وعاشت حياة صعبة اجتازت خلالها سلسلة من التحديات والصعوبات التي لم تقف حائلًا بينها وبين نجاحها في الحياة، خاضت أُمْنِيَة معارك ضارية داخل الحكاية، وكنت أخوض معارك من نوع آخر حتى ترى حكايتها النور، بعد ثمانية أشهر ولدت روايتي الأولى في أحضان غزة الحبيبة، وانتشقت عبق الحياة هناك في إحدى مكتباتها.

غادرت أُمْنِيَة البيت إلى دار الأمل للمكفوفات بطريقة تشبه الاختطاف، لتجد نفسها وحيدة غريبة وتصف تلك المرحلة قائلة: "ليت فقدان بصري كان الشيء الوحيد الذي كدّر طفولتي وزادها سوادًا إلى سوادها، وألـمًا إلى ألمها، لكان ذلك هينًا ولكانت تلك المرحلة أَحبُّ مراحل عمري إليَّ، ولبقيت ذكريات الطفولة كالورود الشذية تعطر حياتي كما تفعل مع معظم أطفال العالم، رغم ما أسبغته تجارب تلك المرحلة على شخصيتي من قوة، وعلى مشاعري من رقة قلّما تجد لها نظيرًا في عالم تغيَّر فيه البشر، فأصبحوا قُساة، جافّين، غلاظ القلوب، كأنهم ما عادوا بشرًا".

ووسط الأشواك والمفترسات، تجد في دار الأمل ودًَّا ودعمًا من فتاة تكبرها عمرًا وتعاني ما تعانيه، وتقول عن لقائها الأول بمنى التي أخذت تغني لها: "كففت عن البكاء وأنصتُّ لها بكلِّ جوارحي، بالرغم من أنني لم أستطِع حفظ كلماته، ولكنّه يحكي حكاية طفل أعمى".

تعلمت أُمْنِيَة قراءة لغة بريل على مسامير نافرة جارحة، وتتابعت المراحل التي لم تكن لتقف عند حد تعلم لغة بريل، حتى أنهت الثانوية العامة بنجاح، وتوالت نجاحاتها حتى غدت صحفية تحمل قضية بلادها وتدافع عنها: "في غرفة بريل، أخذت الآنسة انتصار ترسم لي الحروف بطريقة بريل، مستعملةً مسامير بارزة الرؤوس، تضعها على قطعة خشبية، بها ثقوب تجعلها ملائمة لكتابة الحرف عليها، فبعد أن تُشكِّل الحرف على القطعة الخشبية بالمسامير، تطلب مني أن أمرِّر أصابعي شديدة البرودة على المسامير الجارحة، لتغدو القراءة عذابًا يوميًّا طالما انتظرت الخلاص منه".

وتكبر أُمْنِيَة مثل زهرة الأقحوان بين الصخور الصلدة دون أن تعوقها قسوتها الشديدة، ويخفق قلبها بحب بريء لعامل الصيانة جواد الذي تقول عنه: "ولم أنتبه لما حولي بعد أن وضعت الناي جانبًا إلا على صوت ذكوري يقول لي بعمق ورِقَّة: "ما أرق عزفك!، لهف قلبي عليك، لِـمَ كلُّ هذا الحزن يا أُمْنِيَة؟!"، وبالطريقة الفجائية نفسها التي ظهر بها، وجدت نفسي أتعلق به فجأة"، فإن عميت العيون فالقلب يبقى يقظًا شديد الحساسية، ولكن جواد يرسب في الاختبار الأول، ويمضي في سبيله.

وتقول أيضًا: "أدركت مع مضيِّ الوقت معنى "أن الضغط الشديد هو ما يحوِّل الكربون إلى فحمٍ حجريٍّ أو إلى ماسٍ شديد الشفافية واللمعان"، فقررت أن أكون ماسًا فائق الجمال برغم الصعوبات والضغوط والتحديات التي تعترض طريقي، ولن أكون أبدًا مجرّد فحم يحرقه الناس فيتحوّل إلى رماد".

وتكمل أُمْنِيَة دربها، وتمرُّ بمحطات لا حصر لها حتى تلتقي رامز، الذي يسألها رأيها في تردده في طلب الزواج من فتاة يخشى أن ترفضه بسبب قدمه المبتورة، فتقول أُمْنِيَة: "الزواج بحاجة لأمور أكبر وأعمق من مجرد أقدام سليمة وجسد سليم وشكل جسد جميل، أشخاص كثيرون أصحاب إعاقات أصعب من إعاقتك استطاعوا إنشاء أُسر ناجحة وسعيدة، ولقد تعرفت خلال عملي إلى حالات كثيرة كهذه، وهناك أزواج كان كلٌّ منهما يعاني إعاقة، دون أن يؤثر ذلك في حياتهما الزوجية"، فهل تنطبق هذه الفكرة على أُمْنِيَة في الرواية ذاتها؟