في أدبيات الثّورة الفلسطينيّة، تُعدّ انتفاضة الأقصى (2000م-2005م) امتدادًا تاريخيًا للفعل الفلسطينيّ المقاوم ضد الاحتلال الإسرائيليّ، وامتدادًا نضاليًا لانتفاضة الحجارة (1987م-1993م)، لكن بأساليب ثوريّة جديدة غلب عليها الطابع العسكريّ والقتاليّ وتراجعُ أدوار المقاومة الشعبيّة والجماهيريّة.
مثّلت انتفاضة الأقصى ذروة انطلاق الفعل العسكريّ؛ فقد شهدت وقائع الانتفاضة تطورًا على صُعدٍ عدّة، منها: البناء التنظيميّ العسكريّ، والصناعات العسكريّة المحليّة، واستراتيجيّة القتال من أجل التحرر، إلخ.
إبّان تصاعد أحداث الانتفاضة وفقدان أجهزة أمن السلطة السيطرة الأمنيّة في غزّة والضّفّة، نجحت المقاومة العسكريّة في إعادة تنظيم صفوفها وتشكيل قواعدها بسرعةٍ فائقة، وقد انتقلت المقاومة في البناء التنظيميّ من التواصل الخيطيّ "النقاط الميتة" إلى التواصل الهرميّ المتسلسل.
الأمر الذي أفضى إلى تقسيم غزّة والضّفّة إلى مناطق يترأس العمل العسكريّ فيها أشخاص ومجموعات محددة، فضلًا عن إنشاء وحدات متخصّصة في مجالات متنوعة، أبرزها: التّصنيّع، والأمن، والتدريب، والإعلام، والعمليّات الخاصّة.
على صعيد التّصنيّع العسكريّ، فقد فرضت طبيعة المواجهة العسكريّة المتصاعدة بين المقاومة والاحتلال خلال الانتفاضة ضرورة توفير وسائل قتاليّة محليّة الصنع قادرة على تلبية الاحتياج الميدانيّ المتزايد.
وفي هذا الإطار، نشطت ورش التّصنيّع العسكريّ المتنقلة بين البيوت والأراضي الزراعيّة، وقد واجهت هذه الورش عقبات عدّة، أبرزها: سيطرة الاحتلال الكاملة على غزّة والضّفّة، وتضييق أجهزة أمن السّلطة، وضعف الخبرات وقلة الإمكانات، وانعدام تجارب معالجة نقاط الضعف ومشكلات التصنيع.
ورغم كل ذلك، تمكّنت المقاومة من إنتاج صناعات عسكريّة شكلت نواة العمليّات الفدائيّة، مثل: المقذوفات والصواريخ؛ كالقسام (1-3) والهاون المحليّ، والقذائف المضادّة للدروع؛ كالإنريجا والياسين والبنّا، والأحزمة والعبوات النّاسفة، والقنابل اليدويّة وطلقات الرصاص "المُكبّسل".
أما في مجال التّكتيكات القتاليّة والإستراتيجية العسكريّة، فقد استفادت المقاومة من عمليّاتها العسكريّة في إطار مراكمة الخبرة الفكريّة والميدانيّة للقتال المنظّم ضد الاحتلال، مستهلةً هذا العمل في بداية الانتفاضة بتشكيل "وحدات المرابطين" في جميع مناطق قطاع غزّة؛ بهدف حراسة المدن والمخيمات، وصدّ اجتياحات الاحتلال.
وفي الإطار ذاته، وظفت المقاومة فكرة "أنفاق التهريب بين غزّة ومصر" كأسلوبٍ تكتيكيّ جديدٍ في تنفيذ العمليّات العسكريّة ضد المواقع العسكريّة والمستوطنات، ما مكنّها من تجاوز منظومة الحراسة والمراقبة المشددة حول هذه المواقع.
بموازاة ذلك، استأنفت المقاومة العمليّات الاستشهاديّة في الداخل المحتل بشكلٍ أزعج الاحتلال؛ نظرًا لارتفاع أعداد القتلى في صفوفه، وأثر ذلك على تراجع الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين المحتلة.
وعلى الصعيدين الأمنيّ والإعلاميّ، واكبت المقاومة التطور البنيويّ في تنظيم قواعدها مستجيبةً لضرورات الواقع العسكريّ خلال الانتفاضة، من خلال تأسيس وحدات أمنيّة وأخرى إعلاميّة ذات طابع عسكريّ، بحيث تستطيع من خلال وحدات الأمن الخاص الميدانيّة جمع المعلومات عن المواقع العسكريّة والمستوطنات من جهة، وكشف عملاء "الشّاباك" وملاحقتهم من جهةٍ أخرى.
وقد أدركت المقاومة مبكرًا أهميّة الصّورة في التّأثير على الجمهور؛ فعمدتْ إلى تكليف وحدة إعلاميّة مركزيّة بمهام توثيق العمليّات العسكريّة ووصايا المقاومين، وأنشأت موقعًا إلكترونيًا خاصًا بإصدارات المقاومة وبياناتها العسكريّة.
بالتوازي مع ذلك، عينت "أبو عبيدة" متحدثًا رسميًا باسمها، وهو ما شكل نقطة تحول جوهريّة في خطاب إعلام المقاومة.
ساهمت انتفاضة الأقصى في تنظيم قواعد المقاومة وبناء قدراتها العسكريّة، الأمر الذي انعكس على طبيعة عمليات المقاومة العسكريّة وقوّة تأثيرها في صفوف الاحتلال من جهة، وبثّ الأمل لدى الفلسطينييّن بإمكانيّة امتلاك قوّة عسكريّة تلجم الاحتلال من جهةٍ أخرى.
بالفعل، بعد خمس سنوات من عمليّات المقاومة في انتفاضة الأقصى، اندحر الاحتلال عن قطاع غزّة عام 2005م، وفي أعقاب ذلك كشفت المقاومة عن المجلس العسكريّ المسؤول عن قواعد المقاومة في غزّة بقيادة القائد العام محمد ضيف وعضويّة ثلّة من قادة المقاومة في المناطق الجغرافيّة والتخصصات العسكريّة النوعيّة.
لقد مهدت انتفاضة الأقصى لمرحلةٍ متقدمة في الفعل المقاوم وأدواته العسكريّة، حيث شهدت سنوات ما بعد الانتفاضة تطورًا نوعيًا في قدرات المقاومة سواءً على مستوى التنظيم البنيوي والتشكيلات العسكريّة أو امتلاك أدوات عسكريّة متطورة كان لها دور كبير في تحقيق ردعٍ نسبيٍ مع الاحتلال، خاصةً في قطاع غزّة.