فلسطين أون لاين

السودان.. من الثورة إلى التطبيع

بعد منتصف ليلة الحادي عشر من أبريل عام ٢٠١٩م حدث الانقلاب العسكري على نظام الرئيس السوداني عمر البشير بعد مظاهرات شعبية استمرت ما يقارب خمسة أشهر حاول خلالها نظام البشير استخدام كل الطرق والأساليب واستخدام سياسة العصا والجزرة لإيقافها ولكن لم يستطع، وانتهت المظاهرات الشعبية بالانقلاب العسكري واعتقال البشير واركان نظامه... في اليوم الثاني للانقلاب دار نقاشٌ مع بعض الإخوة حول ما حدث، ومآلات الأوضاع في السودان... تحدث البعض عن سوء اوضاع السودان الاقتصادية والاجتماعية وانفصال جنوب السودان واستبداد البشير والفساد الحكومي والغلاء وانخفاض سعر الليرة السودانية مقابل الدولار وكما كل الثورات الشعبية لها مبرراتها، وتحدث البعض على ان كل ما يُشاع عن البشير محض افتراء وكذب وأنه رجل متدين وما يحدث مؤامرة عليه عندما اكتشف خداع السعودية والامارات ولم يتلقَّ الدعم المطلوب منهما للسودان الذي يشاركها عاصفة الحزم كما وعدتاه وكما أن أمريكا ترفض شطب اسم السودان من لائحتها للإرهاب بدأ بتغيير وجهته ثانية حيث زار سوريا كأول رئيس عربي يتمرد على قرار الجامعة العربية بطرد سوريا، وجاءت الزيارة دعماً لنظام الاسد وتأكيدا على الالتحاق بالتحالف الروسي الإيراني بعد ان قطع علاقته مع إيران عام ٢٠١٦م... حينها كان لدي شعور وقد عبرت عنه بأن مستقبل السودان لن يكون مثل ماضيه تجاه القضية الفلسطينية وأن التغيير في السودان الذي جاء متأخرا عن الربيع العربي والذي بدأ في تونس سيكون له تأثير كبير على وضع ومكانة القضية الفلسطينية وتعاطي القيادة السودانية الجديدة معها وكان واضحا غياب القيادات التاريخية (الاسلامية والعروبية والقومية) عن الشارع السوداني حينها وحضور قيادات شيوعية وشبابية من قادة المظاهرات مدفوعة بالرغبة في التغيير... والنتيجة ان السودان دخل مرحلة جديدة من حكم الجنرالات وقد تعود السودان على انقلاب الجنرالات منذ استقلاله عن الاستعمار البريطاني عام١٩٥٦م والبشير نفسه انقلب على الحكومة المدنية المنتخبة بزعامة الصادق المهدي والذين ساعدوه حينها الاسلاميون بقيادة المرحوم الدكتور حسن الترابي الذى انقلب عليه البشير بعد ذلك وأودعه السجن... وللأسف طموحات الشعوب العربية في معظمها تذهب ادراج الرياح امام حصاد الثورات التي يجنيها العسكر... والعجيب ان هذه الانقلابات على ارادة الشعوب لا تأتى الا بمزيد من الخراب والدمار والانتهاكات والقهر والفقر والتراجع على كل المستويات... أما الجنرالات الجدد في السودان تبينت توجهاتهم منذ بداية تسلمهم زمام الحكم بأنهم سائرون صوب أمريكا و"إسرائيل" دون سابق انذار وبدأت اللقاءات السودانية الاسرائيلية بين جنرالات الحكم السوداني وقادة الاحتلال الصهيوني وبدون خجل وأمام الملأ يلتقى عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي في السودان مع نتنياهو في اوغندا في شباط/فبراير الماضي في حين أكدت الحكومة السودانية أنه لم يتم إخطارها أو التشاور معها في مجلس الوزراء بشأن هذا اللقاء الذى حدث دون علم مجلس الوزراء الذى يرأسه عبدالله حمدوك، ثم يذهب البرهان على رأس وفد إلى الامارات ليلتقي مع بومبيو وزير الخارجية الأمريكي بحضور ابن زايد (عرّاب التطبيع في المنطقة) والذى مارس ضغوطا كبيرة على البرهان لكى يقبل بالتطبيع مع "إسرائيل"، وأكد المراقبون أن الحوار الثلاثي في الامارات (ابن زايد - بومبيو- البرهان) تناول موضوعين:

- ضرورة إزالة اسم السودان من لائحة الإرهاب الأمريكية.

- التطبيع مع الكيان الصهيوني والذى خضع للمساومة بين ابن زايد وبومبيو من جهة والبرهان من جهة أخرى وحدث الاختلاف على كم المليارات التي ستُدفع للسودان مقابل التطبيع في حين امريكا تعرض 800 مليون دولار تساهم الامارات ب600 مليون منها، وشطب اسم السودان من لائحة الارهاب الامريكية فإن البرهان يطالب ب 3-4 مليارات دولار وبعض التقارير تقول انه طلب 7 مليارات دولار لإنعاش الاقتصاد السوداني المنهار، منها مليار و٢٠٠ مليون على هيئة مساعدات قمح ونفط. وقد صرح البرهان في اكثر من لقاء و أمام المجلس السيادي أن السبب الرئيس من التطبيع مع "إسرائيل" هو رفع اسم السودان من لائحة الإرهاب الأمريكية وتحقيق التنمية للسودان... ما يعنى أنه في أي لحظة قد نشهد احتفال التطبيع بين نظام الحكم في السودان والكيان الصهيوني في حديقة البيت الأبيض، وبذلك تكون قلعة مهمة جداً في عالمنا العربي قد سقطت من جديد...

بالنسبة لنا كفلسطينيين فإن فقدان السودان كداعم للقضية الفلسطينية يمثل لنا مصاباً كبيراً فإنه بالرغم من التغيرات المختلفة في أنظمة الحكم هناك فإن السودان كان دائماً الظهير العربي والاسلامي الحقيقي الذى احتضن الفلسطينيين على مدار العقود الماضية بكل أطيافهم وتنظيماتهم قبل ان تحط الثورة الفلسطينية رحالها على ارض السودان بعد ان خرج المقاتلون من بيروت عام ١٩٨٢ واقاموا مواقع تدريب لهم على ارض السودان وكذلك حركات المقاومة الفلسطينية بعد ذلك والتي عملت على الارض السودانية بأريحية مطلقة وتلقت الدعم المعنوي والسياسي من الشعب والسلطات السودانية ومن التهم الموجهة للسودان من امريكا و"إسرائيل" السماح بمرور شحنات الأسلحة للمقاومة الفلسطينية عبر اراضيها وأيضاً إقامة معسكرات تدريب لها هناك... دولة الكيان الصهيوني تدرك الاهمية الاستراتيجية التي يمثلها السودان جغرافياً وإطلالته على البحر الأحمر وأمنياً وعسكرياً وثروات طبيعية غير مستغلة، تعرف "إسرائيل" جيدا كيف تستفيد منها فيما لم تستطع الانظمة التي تناوبت على حكم السودان استثمار تلك المقدرات والثروات الطبيعية والعنصر البشرى إلى جانب عدم الاهتمام العربي أيضاً بالاستثمار في السودان وعدم استغلال مقدرات الامة العربية وثرواتها للنهوض بالسودان هو الذى جعل السودان الغنية بثرواتها التي لا تُحصى من أفقر دول المنطقة ومن أقوال الشاذلي القليبي الأمين العام السابق للجامعة العربية: "لو زرع السودان قمحا لأطعم الأمة العربية كلها"... لذا فإن نتنياهو سيضرب عصافير كثيرة بحجر التطبيع مع السودان والتي ستمثل الكنز الاستراتيجي الحقيقي لـ"إسرائيل":

أولاً: التطبيع مع دولة مثل السودان يُسجل انجازاً تاريخياً يستفيد منه نتنياهو في الانتخابات القادمة ويحميه من محاكم الفساد التي تنتظره.

ثانيا: فقدان القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني أهم حواضن الدعم والاسناد في العالم العربي.

ثالثاً: استخدام التقدم العلمي والتكنولوجي الإسرائيلي للاستفادة من ثروات السودان المخزونة التى سيسعى الكيان جاهدا للاستفادة منها.

رابعاً: ان يكون مكان لدولة الكيان على البحر الأحمر كما معظم دول العالم القوية والتي لها نفوذ على البحر الاحمر لأهميته الإستراتيجية، والسودان تطل عليه بمسافات كبيرة.

خامساً: حل مشكلة قلة المياه مستقبلاً وزيادة ملوحة مياه الشرب التي بدأت دولة الاحتلال تعانى منها بالاستفادة من مياه النيل الذى يعبر السودان ومصر التي قامت بمد أنابيب من النيل الى سيناء ويؤكد المراقبون أن هذا كان مطلباً اسرائيليا لإيصاله الى دولة الكيان.

سادساً: الاستفادة من التقدم الزراعي والصناعي الإسرائيلي في زراعة ما يزيد على ٢٠٠ مليون فدان من أرض السودان متروكة بلا فائدة، وكذلك امتلاك السودان ما يقارب ١٣٠ مليون رأس ماشية لا يتم الاستفادة منها كما يجب.

وهناك من الفوائد التي ستجنيها دولة الاحتلال ويذكرها بعض المراقبين أن ما يقارب 7 آلاف من السودانيين هاجروا الى الكيان الصهيوني بطرق غير شرعية بحجة العمل وبعضهم بحجة المعارضة السياسية لنظام البشير وهم مسلمون يخشى نتنياهو أن يؤثروا مستقبلاً على التركيبة الديموغرافية لـ"إسرائيل" سيتم إعادتهم إلى السودان في ظل الاتفاق مع النظام الجديد، وأيضا هناك خطة إسرائيلية لتوطين الفلسطينيين على ارض السودان، وكل ما هو مطروح ليس غريباً على العقلية الصهيونية...

 حدثت الفوضى الخلاقة التي نسجت خيوطها كونداليزا رايس وشرق اوسط جديد يتشكل كما طالب شمعون بيرس، ومن عنده قليل من الدراية السياسية يدرك بأن الشرق الاوسط الجديد هو الذى يستوعبُ "إسرائيل" ويقبلُها ويلغي مفهوم العداء التاريخي لها من عقول العرب الذين يحيطون بها من كل جانب وأيضاً حتى يمتلك العرب خاصية القابلية للاستحمار بأن تكون اليد الصهيوأمريكية هي الاقوى في المنطقة... ما نتج عن ثورات الربيع العربى فى بعض الدول العربية كان المستهدف الحقيقي القضية الفلسطينية مع تفهمنا الكامل لمطالب الشعوب العربية بالحرية والمساواة والكرامة والعدالة خصوصاً الشعب السوداني الذى رفع في مظاهراته شعار ( حرية. عدالة. كرامة)، ويعد السودان من الدول العربية القليلة التي بقيت ملتزمة باللاءات العربية الثلاث الصادرة عن مؤتمر قمة الجامعة العربية الذى احتضنته الخرطوم عام ١٩٦٧ على خلفية نكبة عام ١٩٦٧، حينها عُرفت القمة باسم قمة اللاءات الثلاث (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض) مع العدو الصهيوني وخرجت بإصرار على التمسك بالثوابت، مع انها من أفقر دول العالم وليس الوطن العربي فقط... كل المؤشرات تقول ان النظام السودانى الجديد ذاهب الى التطبيع تحت ذريعة رفع اسم السودان من اللائحة الأمريكية للإرهاب ومن أجل تحقيق التنمية ... ولكنها حجة واهية لأن قضية الإرهاب مرتبطة بنظام البشير الذى انتهى ويقول بعض المراقبين يمكن للسودان ان تُقنع أمريكا بذلك، وأما التنمية يمكن ان تتحقق من خلال التواصل مع الصين او مع دول اوروبية متقدمة وحثها على الاستثمار في السودان، ولكنها المؤامرة التي حيكت بليل وثقافة الهزيمة وعقلية التغريب وللأسف ان جزءاً ليس بسيطا من الحكام الجدد للسودان لديهم الرغبة بالتطبيع مع دولة الكيان وهناك أصوات أخرى تطالب بانفصال السودان عن العالم العربي والاندماج بإفريقيا اكثر... والسؤال المُحيّر: أين قادة السودان التاريخيون والنخب الدينية والثقافية والسياسية الذين كان لهم صوت عالٍ سابقاً واليوم لا تسمع لهم ركزا...