تبدأ الحكاية من ميونخ بألمانيا يوم الخامس من سبتمبر عام ١٩٧٢م (عملية ميونخ الفدائية) حين كانت منظمة التحرير في أوج نضالها وكفاحها المسلح، كانت خطة الفدائيين حينها اختطاف رياضيين صهاينة في دورة الأولمبياد الصيفية المقامة في ميونخ من أجل مبادلتهم بـ ٢٣٦ أسيرا فلسطينيا وعربيا ومن ضمنهم كوزو أوكاموتو من الجيش الأحمر الياباني الذي انتمي إلي صفوف الثورة الفلسطينية واعتقلته المخابرات الصهيونية خلال اشتراكه في عملية فدائية في مطار اللد يوم 21/6/1972. ومن نتائج عملية ميونخ قتل أحد عشر رياضيا صهيونيا واستشهاد خمسة فدائيين من منفذي العملية والتي تبنتها منظمة أيلول الاسود بقيادة المرحوم الشهيد أبو إياد الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية. وفي يوم الخامس من سبتمبر عام ١٩٧٨م، تم التوقيع علي معاهدة كامب ديفيد بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، وتُعتبر اتفاقية كامب ديفيد أول شرخ في السقف العربي الذي كان رافضاً لأي اعتراف أو صلح أو مفاوضات مع إسرائيل وقد فاجأ السادات الجميع عندما أعلن في البرلمان العربي وفي خطبة شهيرة له عام ١٩٧٧م قائلاً: "إنني مستعد أن أذهب إلي بيتهم إلي الكنيست ذاته ومناقشتهم"، وهو نفسه الذي خرج منتصرا في معركة أكتوبر ١٩٧٣م علي دولة الاحتلال، لكنه أول من أعلن اعترافه بالكيان الصهيوني وضُربت عليه مقاطعة عربية وطُردت مصر من الجامعة العربية كما تم سحب مكاتبها من القاهرة وانتقلت إلي تونس، وقد نصت المعاهدة علي التفاوض المباشر بين مصر و(إسرائيل) من أجل الانسحاب الإسرائيلي من سيناء التي احتلتها (إسرائيل) عام ١٩٦٧م وإقامة علاقات طبيعية بين مصر و(إسرائيل) بعد المرحلة الأولي من الانسحاب من سيناء، ولم يكن أي رضا شعبي أو نخبوي علي تلك الاتفاقية ولم يستطع العدو الصهيوني بالرغم من مرور ٤٢ عاما علي الاتفاقية أن يخترق المجتمع المصري وبقي السفير الصهيوني متقوقعا في ردهات سفارته ومحاطا بكل أشكال الحماية من الشعب المصري الذي لا يزال رافضا لاتفاقية كامب ديفيد بالرغم من انسحاب العدو الصهيوني الكامل من سيناء.. وفي يوم السادس عشر من سبتمبر عام ١٩٨٢م ارتكب الجيش الصهيوني بقيادة شارون وبمشاركة ميليشيات حزب الكتائب اللبناني بزعامة ايلي حبيقة مجزرة صبرا وشاتيلا وقد قُتل فيها حسب مصادر غربية ما يقارب ٣٥٠٠ من الفلسطينيين واللبنانيين الذين قاسموهم لقمة العيش في مخيمي صبرا وشاتيلا، وتُعتبر هذه المجزرة من أفظع المجازر التي اُرتكبت ضد الفلسطينيين ولا تزال حاضرة بمشاهدها وتفاصيلها وشخوصها في حياة الفلسطينيين واللبنانيين ولتضاف إلي سلسلة المجازر التي ارتكبها العدو الصهيوني منذ عام ١٩٤٨ إلي هذه اللحظة، ولم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا الأولي ولن تكون الأخيرة مادام هناك احتلال صهيوني لا يزال جاثما علي أرض فلسطين. وفي يوم الثالث عشر من سبتمبر عام ١٩٩٣م، تم التوقيع علي اتفاقية أوسلو والتي اعترفت فيها منظمة التحرير الفلسطينية بدولة الكيان الصهيوني وأقرت لها بشرعية احتلالها 78% من أرض فلسطين فيما بقيت الـ 22% أرضا متنازعا عليها بين المستوطنين وكانتونات فلسطينية متفرقة... وها نحن بعد مرور سبعة وعشرين عاما علي الاتفاقية المشؤومة لم نحصد إلا مزيدا من المرارة والمعاناة والقتل والتهجير والاستيطان والتهويد والحصار والجوع والقهر وقد اعترف أخيرا الرئيس الفلسطيني محمود عباس والذي وقّع علي الاتفاقية أمام العالم كله في مهرجان -كالذي رأيناه قبل أيام في حديقة البيت الأبيض- أن العدو الصهيوني أعطاه صفراً كبيرا، وقد أخذ كل شيء، وأنه الآن رئيس سلطة بلا سلطة وذهبت أحلامه بإقامة دولة علي حدود ٦٧ أدراج الرياح، وأن أمريكا كانت تبيعنا الوهم... كما أن بعض الأنظمة العربية استغلت اتفاقية أوسلو جسراً للعبور نحو التطبيع ونسج علاقات سياسية واقتصادية وثقافية ورياضية وغيرها مع الكيان الصهيوني، ولم يعد خافياً أن اتفاقية أوسلو دمرت المشروع الوطني الفلسطيني وحاصرت المقاومة وجعلت الاحتلال الصهيوني يعربد كيفما يشاء بلا كُلفة كما أحدثت انقساما فلسطينيا لا نزال نعيش آثاره المأساوية إلي هذه اللحظة. وفي يوم الثاني عشر من سبتمبر عام ٢٠٠٥م كان اندحار الجيش الصهيوني بقيادة شارون من غزة بعد أن أوجعته المقاومة الفلسطينية بكافة أذرعها العسكرية وعلي رأسها سرايا القدس وكتائب القسام بالعمليات البطولية والنوعية ضد الجيش الصهيوني والمستوطنين الذين كانوا يعتبرون أرض غزة مزرعة لهم ومصنعا لمنتوجاتهم وكان يَعدُهم شارون ويُمنّيهم بأن مستوطنة نتساريم بالنسبة إليه مثل "تل أبيب" ولن يتخلى عنها أبداً، إلا أن حالة الاستنزاف المستمرة له ولجيشه جعلته ينسحب مهزوما بلا اشتراطات ولا اتفاقيات يجر أذيال الخيبة وقد اعترف شارون نفسه أن الانسحاب "جاء تحت ضغط الوضع الأمني المتردي " وما سمّاه "معاناة المستوطنين"... وفي يوم الخامس عشر من سبتمبر ٢٠٢٠م كان السقوط الكبير لنظاميْ الإمارات المتحدة ومملكة البحرين في وحل التطبيع مع العدو الصهيوني والتخلي تماما عن القضية الفلسطينية وتنفيذ الشق الأهم من صفقة القرن وهو إعطاء الشرعية للكيان الصهيوني علي أرض فلسطين ليكون كيانا طبيعيا في قلب العالم العربي والإسلامي، والحديث يدور عن أنظمة عربية أخري ستسير في نفس الطريق باتجاه التطبيع مع العدو الصهيوني بعدما أعطت الجامعة العربية في اجتماع وزراء الخارجية العرب يوم ٣ سبتمبر ٢٠٢٠م الضوء الأخضر للأنظمة العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني وقد أسقطت المشروع الفلسطيني بإدانة توقيع معاهدة التطبيع بين الإمارات والكيان الصهيوني وبذلك تكون الجامعة قد ألقت بالمبادرة العربية التي أصدرتها عام ٢٠٠٢ في سلة المهملات (والتي كان شرطها تنازل إسرائيل عن أراضي الـ٦٧ مع تبادل أراضي يقابلها الاعتراف وعقد معاهدات سلام مع إسرائيل)، وقد اعتبرها الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الأستاذ زياد النخالة أخطر علي القضية الفلسطينية من وعد بلفور (في لقاء علي فضائية الميادين مساء الأربعاء 17/9/2020)، لتبدأ مرحلة عربية أكثر انهيارا من المرحلة التي سبقتها افتتحها نظاما الإمارات العربية والبحرين... وبالفعل تم التوقيع مساء يوم ١٥ سبتمبر ٢٠٢٠م في حديقة البيت الأبيض بين النظامين الإماراتي والبحريني مع (إسرائيل) بشهادة أمريكية وأمام حضور كبير باحتفال فولوكلوري نقلته كل وسائل الإعلام في العالم... مشهدٌ مخزي يظهر مدي السقوط الاخلاقي والقيمي الذي أصاب المُوَقِّعين علي معاهدة التطبيع مع الكيان الصهيوني بدون أي حسابات للعقيدة والعروبة والتاريخ واستخفافا بالمبادئ الإنسانية عندما يُكافأ المجرمُ والقاتلُ الصهيوني علي جرائمه ويُكافأُ ترامب علي مؤامرة صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية، ويشكل النظامان بذلك طوق نجاة لنتنياهو وترامب من محاكم الفساد التي تنتظر الاثنين ويتقدما للفوز في الانتخابات القريبة القادمة في اللحظة الذي سَئِم فيها الشعب الأمريكي ترامب وسَئِم المجتمع الصهيوني نتنياهو بسبب قضايا الفساد التي ارتكبها الاثنان، لذا فإن توقيع معاهدات تطبيع أو سلام مع العدو الصهيوني لا تعطيه فقط مزيدا من الشرعية باحتلال فلسطين ومزيدا من الشهوانية المتدفقة لارتكاب الجرائم والمجازر ضد الشعب الفلسطيني، وإنما ستعطيه الدافعية لإشعال حروب ومزيد من الدمار في المنطقة العربية عندما تحط القواعد العسكرية الصهيوأمريكية رحالها علي أرض البحرين والإمارات وباقي أراضي الخليج علي امتداد الحدود مع إيران، فإن أي حرب ستشعلها أمريكا و(إسرائيل) هناك ستنعكس نتائجها الكارثية علي دويلات الخليج وليست علي أمريكا أو (إسرائيل) وهذا ما تريده دولة الكيان، بالإضافة إلي أن عين (إسرائيل) علي تلك المنطقة لنهب ثرواتها وليكون مستقبلا ميناء حيفا بديلاً عن ميناء بيروت الذي دمرته أيادٍ يحركها الموساد (حسب بعض المراقبين)... وبذلك تكون دولة الاحتلال حمت نفسها من إيران التي تشكل الخطر الأكبر عليها والتي تقود محور المقاومة والداعم الرئيس للقضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية واللبنانية اللتان مثلتا هاجسا وجوديا وأمنيا للكيان الصهيوني بعد أن تم تحييد الأنظمة العربية التي رضيت لنفسها وبطواعية مطلقة أن تسير في الفلك الصهيو أمريكي، وبذلك يكون العدو الصهيوني قد أمن العقاب إلي جانب ضمان عدم تدخل أي من الأنظمة المُطبّعة لإنقاذ أو مساعدة الشعب الفلسطيني واللبناني في أي حرب قادمة يشنها العدو الصهيوني عليهما... كما حدث سابقا في حرب تموز ٢٠٠٦م علي لبنان وثلاث حروب مدمرة علي غزة لأن ثروات ومقدرات الأمة أصبحت خاضعة للارادة الصهيوأمريكية... لقد شهد شهر سبتمبر هذه الاحداث علي مدار خمسة عقود تقريباً، وكما هو معروف فإن مركز القرار الصهيوني لا يختار التواريخ عشوائيا كما هي الأنظمة المتهافتة لأن الصورة النمطية في عقول قادة الصهاينة والذي عبّر عنها وزير الجيش الإسرائيلي الأسبق موشي ديّان" حين قال "إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون" وهذا ما ينطبق علي هذه الأنظمة الرجعية، ولو امتلك المطبعون ذرة فهم سياسي لاعتبروا بما وصلت إليه الأمور في مصر وفلسطين والأردن من أوضاع كارثية في كل المناحي بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام ١٩٧٨ واتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣ واتفاقية وادي عربة عام ١٩٩٤... ورسالة نتنياهو للعرب والفلسطينيين ان الخطأ التاريخي الذي ارتكبه شارون في سبتمبر عام ٢٠٠٥م بالانسحاب من غزة لن يتكرر وهو آخر الانسحابات، أما رسالته للإسرائيليين "أن علي (إسرائيل) أن تأخذ درساً من تجربة الانسحاب من غزة وألّا تنسحب من الضفة الغربية الأقرب علي مراكز (إسرائيل) الحضرية من غزة"... طموحات ترامب ونتنياهو من التطبيع من أجل تهيئة المنطقة لتكون مرتعاً آمناً لدولة الاحتلال مقابل توفير الحماية لعروش مهترئة.. لكنْ، سُنّةُ الله ماضية "وإذ تأذنّ ربك ليبعثن عليهم إلي يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إنَّ ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم" صدق الله العظيم.