لم ترق للسلطة الفلسطينية ومسؤوليها تصريحات السفير الأمريكي في (إسرائيل) ديفيد فريدمان، لصحيفة "إسرائيل اليوم" التي قال فيها: "ندرس استبدال القيادي محمد دحلان بالرئيس محمود عباس"، وهي ابتداءً تصريحات ليست غريبة، من منطق أن اتفاق الإمارات سيمنحها دورًا سياسيًا متقدمًا في المنطقة والقضية الفلسطينية، مستفيدة من تحالفها أيضًا مع القاهرة، والضوء الأخضر الممنوح من السعودية، ما يعني أن دحلان سيكون على الأغلب جزءًا من هذا الدور.
إن التحوّل الخطر في الموقف العربي، وليس اتفاقات التطبيع الأخيرة بعينها، لن يكون إلا مقدمة لتحوّل سياسي أكثر جرأة وخطورة في مسار الصراع مع (إسرائيل)، وسيسقط معه منطق العمق العربي وكل مفردات العروبة، وسيتحقق فيه قول الأديب السوري محمد الماغوط: "كل الأوطان تنام وتنام، وفي اللحظة الحاسمة تستيقظ، إلا الوطن العربي في اللحظة الحاسمة ينام" !
ما توصل له فريدمان بقوله إن "القيادة الفلسطينية الحالية بحاجة للانضمام إلى القرن الـ21؛ لأنهم في الجانب الخطأ من التاريخ"، هو نتيجة واقعية لتمسّك السلطة وقيادة حركة فتح بنهج سياسي لم يمنحها من وجهة نظر فريدمان مكانًا في القرن الـ 21.
يعني ذلك أن فريدمان لا يرى أن أكثر من 30 عامًا سلكته قيادة السلط وفتح في التسوية السياسية مع (إسرائيل) يمكن أن يمنحها التقدير على ذلك أو المكافأة بدولة فلسطينية في حدود عام 67 كان يفترض وفق اتفاق أوسلو أن يحصلوا عليها في عام 1998، أي قبل 22 عامًا.
تعكس تصريحات فريدمان، الذي تعيّن سفيرًا للولايات المتحدة في (إسرائيل) في ديسمبر 2016 بعد رسالة وجهتها منظمة صهيونية إلى مجلس الشيوخ الأمريكي، الانطباع لدى البيت الأبيض بإدارة ترامب عن قيادة الرئيس محمود عباس "رجل الاتفاقات والمحادثات وصاحب أوسلو"، والرجل الأفضل في حينه، لخلافة الرئيس المتمرّد ياسر عرفات.
فهل يحمل تصريح فريدمان إعلانًا صريحًا، يدلي به لأوّل مرة مسؤول أمريكي رفيع المستوى بشكل علني، بانتهاء صلاحية الرئيس أبي مازن؟ ما يعني العودة إلى سيناريو "الإزاحة" بدحلان هذه المرّة؟
لقد سبق الشارع الفلسطيني فريدمان في تقريره لمستقبل أبي مازن، حين أظهرت نتائج استطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية بالضفة الغربية وقطاع غزة في الفترة بين 10-12 سبتمبر 2020، أن الغالبية العظمى، ونسبتها 78%، تقول إن ترحيب مصر بالاتفاق الإماراتي الإسرائيلي يعني تخليها رسميًا عن الرئيس عباس.
ردود الفعل المتشنّجة على التصريح، تكشف أنه أحدث هزّة سياسية في المقاطعة برام الله، بدرجة أكبر مما أحدثته ربما القرارات الأمريكية مجتمعة ضد السلطة، مثل نقل السفارة، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وقطع المعونات، وغيرها.
هذا "البيع السياسي" من صانع الصفقات في البيت الأبيض للقيادة الفلسطينية التي هرمت في التسوية، تُطرح في مقابله صفقات بأموال طائلة وغير مسبوقة، ومحاولات اقتراب من الفئة التي تمسّكت بفكرة المقاومة لإحراز الاحترام والتقدّم السياسي.
في غضون شهرين فقط، يكشف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية أن حركته رفضت عرضا من جهات مدفوعة من قوى كبرى، بـ 15 مليار دولار مقابل نزع سلاح المقاومة، ثم يعلن بعدها بأسابيع أن جاريد كوشنر، صهر ترامب وكبير مستشاري البيت الأبيض، أرسل رسالة للحركة عبر أطراف باستعداده للجلوس مع قادة حماس في أي مكان تحدده سواء عاصمة عربية أو أوروبية.
ويضاف إلى ذلك إعلان واشنطن مؤخرًا، خلال بيان أمريكي قطري مشترك، أنها تشارك قطر قلقها من الوضع الإنساني في قطاع غزة، وضرورة اتخاذ خطوات لتحسين الظروف المعيشية هناك.
ندرك أن ذلك يأتي في سياق محاولات الولايات المتحدة تمرير صفقة القرن بدون أي مقاومة لها، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن أثر القوة في تحديد شكل التعاطي الإقليمي والدولي معك، وهذا هو الميزان الذي يحكم العلاقات الدولية، إلى جانب المصالح التي لا تجلبها التسويات فقط.
وهذه قناعات تدركها وتتمسك بها فصائل المقاومة الفلسطينية، والتي نقلتها بمعيار فريدمان إلى الجانب الصحيح من التاريخ في القرن الـ21، وتقدّر المقاومة أن الولايات المتحدة تحاول معها ما بدأت به مع حركة فتح، لكن بثمن أكبر هذه المرة، إلا أن الردّ اليوم لم يخضع للنقاش في ظل المعرفة بأن المصلحة من ذلك إسرائيلية.
وهذا ما يجب أن يدركه الرئيس عباس الذي بتقديري لن يُغيّر قناعاته، فهو يؤمن أشد الإيمان بأن "بيضة اليوم خير من بقرة البارحة"، وهو الذي قال في حوار سابق مع قناة cbc المصرية في 2014 إنه "لا يؤمن بحركات المقاومة.. لا يوجد شيء اسمه حركة مقاومة"، وهو بذلك قلل على نحو خطر من قدر الوظيفة الوجودية للشعب الفلسطيني. وعليه، فإن من تخلّى عن تقدير شعبه، لا يتوقع التقدير من غيره.