لا يخفى على كل ذي رأي أن ما حدث مؤخرًا من توقيع اتفاق ثلاثي بين بين النظام الإماراتي والبحريني واليمين المتطرف الصهيوني في شخص ونتنياهو، ورعاية الرئيس الأمريكي ترامب، وما رشح من موقف مخز للجامعة العربية في رفض المقترح الفلسطيني بشجب واستنكار هذا الاتفاق، لا يشكل صدمة ولكنه بالتأكيد يشكل تحولًا في الموقف العربي الرسمي المعلن تجاه القضية الفلسطينية.
وكما علق وزير الخارجية الإيراني الدكتور جواد ظريف أن الاتفاق عبارة عن إعلان بين حلفاء قديمين، لكنه في المقابل يشكل تراجعا في الموقف العربي الرسمي، خاصة إذا ما استحضرنا مسألتين:
الأولى أن الرسمية العربية التزمت بالمبادرة العربية عام ٢٠٠٢، ورغم فشل تلك المبادرة، إلا أن اتفاق التطبيع الإماراتي البحريني الأخير يشكل رسميا تشييع جنازة مبادرة الملك عبدالله السعودي التي اشترطت قيام دولة فلسطينية يعترف بها دوليًا على حدود الرابع من حزيران 1967، وتحقيق عودة اللاجئين والانسحاب من الجولان السورية المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع الكيان الصهيوني.
الثاني أن الكيان الصهيوني اليوم هو في حالة عدوان على الشعب الفلسطيني من خلال ما سمي بمشروع صفقة القرن ومحاولاته المتكررة لضم أراض من الضفة الغربية وكذلك الاعتداءات المستمرة على أهلنا في القدس وعلى المسجد الأقصى، وعدوانه المستمر من خلال الحصار الخانق إنسانيا وسياسيا واقتصاديا على شعبنا الفلسطيني في غزة منذ ٢٠٠٦، وعليه فإن الرسمية العربية التي كانت على الأقل تستنكر مثل هذا العدوان نجدها اليوم تقوم بتكريم المعتدي الصهيوني.
الحقيقة كباحثين وطلاب في العلاقات الدولية نتساءل عن السياق الذي يمكن من خلاله تفسير هذا المسخ السياسي الحاصل في الموقف السياسي العربي، وما علاقة التوقيت في إعلان مثل هذه الخطوة الخسيسة والنذلة.
في المقابل كسياسيين وأبناء مشروع مقاوم علينا الإجابة على سؤال ما العمل?!
عند تناول المحور الأول والذي عليه التعامل مع سؤال لماذا? وماذا? نجد أن المسألة يمكن تناولها في منهجين علميين، الأول هو التفسير الزماني والثاني هو التفسير التراكمي.
أما التراكمي فيمكن فهم خطوة الاتفاق في سياق المشروع الصهيوأمريكي الممتد زمانيا لتأمين وتكريس التفوق النوعي للكيان الصهيوني على غيره من مكونات المنطقة ومن ثم تمكينه من أن يكون القوة الإقليمية المسيطرة والأكبر في الشرق الأوسط. وظهر هذا التصور بشكل جلي مع وصول المتطرف اليميني ترامب إلى سدة الحكم في ٢٠١٧، والذي أعلن حينها صراحة رفضه لحل الدولتين، وكذلك عدم تصوره لحل الدولة الواحد، بل هي دولة يهودية "إسرائيلية" ولا شيء غير ذلك. ولعل هذا يتقاطع مع رؤية رئيس وزراء العدو الصهيوني نتنياهو، الذي رأى منذ البداية أن أي حل للصراع لا يكون إلا من خلال البوابة العربية وليس عبر البوابة الفلسطينية، فهو لا ينظر إلى الفلسطينيين على أنهم من بني البشر ناهيك بأن يعطهم أي اعتبار سياسي كمواطنين ولو من الدرجة الثانية. لذلك فهو من جهة يرفض أن يجلس ويتفاوض مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي يفترض ضمن أدبياتهم أنه شريكهم في "السلام"، ومن جهة أخرى يفرض على الجانب الفلسطيني كل الالتزامات الأمنية وتحمل تكاليف إدارة الشأن التنفيذي الإداري للشعب الفلسطيني، في صورة لاحتلال يتم تأمينه من قبل من يحتلهم، وكذلك لا يتحمل أي تكاليف اتجاه هذا الشعب المقهور.
والنتيجة فهذا التصور يخدم الفكرة الاستراتيجية لعملية الانتقال المتوقعة في بناء نظام عالمي جديد تستطيع فيه أمريكا أن يكون لها ثكنة متقدمة وقوية في منطقة الشرق الأوسط في شكل الكيان الصهيوني الجديد والذي يتصف بتطويعه وسيطرته على مكونات الإقليم، وأنه اليد التي تبطش بها الهيمنة الأمريكية في هذه الجغرافيا.
أما التحليل الزماني، فيتعلق بواقع الأمر الذي يخبرنا كمراقبين، بحجم الأزمة السياسية والمحلية الخانقة لكل من ترامب ونتنياهو في مجتمعاتهم، فترامب لم يعد لديه أي ملف يقدمه للناخب الأمريكي في الانتخابات الرئاسية القادمة، خاصة بعد فشله في إدارة الشأن الداخلي وملف الفساد الذي يواجهه وتحرك الشارع ضده شخصيا، وعلى الصعيد الخارجي بدت علاقاته متوترة مع تركيا ولم ينجح في تطويق إيران، ولا في قمع قوى وحركات المقاومة لا في فلسطين ولا في المنطقة. كلا الشخصين يظن واهما أن اتفاقا سريعا مع أنظمة لا تشكل أي وزن جيوسياسي في المنطقة ولا في الإقليم، يمكن أن يشكل طوق نجاة لهما من أزماتهم الداخلية، في المقابل فإن تبعاتها الأمنية داخل الإقليم تستحق الدراسة.