فلسطين أون لاين

تركيا والاتفاق الإماراتي مع الاحتلال

خلال الأيام القليلة الماضية انشغل العالم العربي والإسلامي وحتى الإعلام الغربي بإعلان الإمارات العربية عبر الولايات المتحدة الأمريكية المعلوم وأقرت بما يتحدث به القاصي والداني من توافق إماراتي مع الكيان الغاصب، فقد أعلنت عن توقيع اتفاقية تعاون وسلام معه، لكن ردة الفعل التركية كانت الأكثر جدلية في هذا الموضوع، إذ كيف لها أن تهاجم دولة عربية لأنها أقامت علاقات مع احتلال تقيم معه تركيا علاقات منذ أكثر من سبعين سنة!

وانقسم المنتقدون لهذا الأمر بين من يبرر للإمارات موقفها، ومن يطالب تركيا باتخاذ موقف جريء وتنفيذ خطوات أكثر جرأة في موضوع العلاقة مع الاحتلال مثلما تطلب هي من الآخرين ذلك.

أما الفريق الأول فلا حاجة لنقاشه لأن طريقة تفكيره توجهه لدعم كل ما تفعله الإمارات وتبريره حتى لو كان ما تفعله اليوم متناقضًا مع ما تفعله أمس أو العكس، وجل هؤلاء يتعاملون مع القضايا السياسية كلها بمنطق المناكفة أو الحمية لطرف دون آخر، أما من ينتقدون تركيا قناعة منهم أنها تحتاج لإثبات مصداقية مواقفها فهؤلاء يحتاجون لقراءة الصورة قراءة أوضح كي يستطيعوا تقييم الموقف التركي بطريقة أكثر إنصافًا وموضوعية.

موجز العلاقات التركية الإسرائيلية

تعرضت العلاقات التركية مع الاحتلال لتقلبات في العديد من المراحل التي عاشتها تركيا منذ الاعتراف التركي كثاني بلد مسلم بالكيان عام 1949 في ظل حكم الحزب الواحد الكمالي بقيادة خليفة أتاتورك عصمت إنونو بعد إيران التي اعترفت عام 1948 وشهدت هذه العلاقات بعض التراجع في عهد تورغوت أوزال بعد إعلان الاحتلال توحيد القدس عاصمة لدولة الاحتلال عام 1980 ولكنها عاشت ذروتها في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة في ظل حكم الجنرالات من خلف الستار وواجهة الحكم بيد الحكومات الائتلافية الضعيفة وكان محور العلاقات الأساسي في تلك المرحلة عسكريًّا بامتياز من اتفاقيات تطوير الدبابات والطائرات التركية إلى تنفيذ التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة وإعطاء طائرات الاحتلال ساحة تدريب بالذخيرة الحية في الأراضي التركية، واستخباراتيًّا وصل التنسيق بين الطرفين حد العمل المشترك على العديد من القضايا والملفات الدولية ولا يتسع الحديث هنا عن التفاصيل لكن الدوافع والمبررات والواقع كان فيه الكثير من التعقيدات والدوافع للوصول لهذه النقطة وقد نأتي على تفصيل ذلك في مقالات لاحقة.

لكن في عهد حزب العدالة والتنمية الذي وصل الحكم بعد أكثر من ستين سنة من العلاقات الوطيدة وعلى طاولته العديد من الاتفاقيات المنفذة أو التي قيد التنفيذ وهو الحزب الذي كان يحكم البلاد ظاهريًّا لكنه لا يتحكم بها فعليًّا حتى على الصعيد الداخلي، فما بالكم بالعلاقات الدولية والتموضع ضمنها! ففي دورته الأولى في الحكم استمر العمل بكل الاتفاقيات بل استفاد منها العدالة والتنمية عبر دعم اللوبي اليهودي له في المحافل الدولية ولكن ومع تغير قدرته على السيطرة على مفاصل الدولة وانتقال تركيا لتصبح دولة مؤثرة في الإقليم فقد تطور دعم تركيا للقضية الفلسطينية على الصعيد الاقتصادي والسياسي وأصبحت تسعى لتكون الجهة الأكثر ثقة لدى جميع الأطراف العربية في الوساطة بينها وبين الاحتلال ولم تخل هذه الدولة من تصاعد وتيرة النقد من قبل الحكومة والحزب في تركيا للاحتلال وجرائمه، ولكن بعد حرب الاحتلال الأولى على غزة في ديسمبر 2008 والموقف التركي من الاحتلال في قمة دافوس الاقتصادية في يناير 2009 كان أول تراجع واضح وصل حد القطيعة شبه التامة بين الطرفين ومنذ ذلك الحين وحتى الآن ورغم عودة العلاقات بالضغوط الأمريكية وحاجة الطرفين فإنها كانت تنهار مع أول احتكاك، وهذا ما حدث حتى اليوم وانخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي بين الطرفين حتى اليوم الى القائمين بأعمال السفارات لدى الطرفين بعد طرد السفراء نتيجة الموقف التركي من المذبحة التي نفذها جيش الاحتلال ضد المتظاهرين على حدود قطاع غزة في أثناء مسيرات العودة.

أما الاتفاقيات العسكرية فقد تم إلغاؤها أو إنهاء العقود المرتبطة بها وتم وقف التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة ومنعت تركيا الاحتلال من استخدام أراضيها وأجوائها للتدريبات العسكرية مما دفعه للاتفاق مع اليونان لاستخدام أراضيها بدلًا من تركيا واليوم استبدلت تركيا الكيان في أغلب ما تستطيع في شراء ما تحتاج من قطع ومعدات عسكرية ليس لترسيخ المقاطعة ولكن لانعدام الثقة بين الطرفين.

أما العلاقات الاقتصادية التي تعد المثلبة الأهم التي توجه لتركيا من منتقديها ففيها قضيتان أساسيتان؛ الأولى أن الأرقام الاقتصادية تشمل ما يستورده الفلسطينيون من تركيا بناء على اتفاقية باريس المجحفة لكون المدخل الوحيد للبضائع للأراضي التي تديرها السلطة الفلسطينية عبر الاحتلال، والثاني أن الطرفين نتيجة الاتفاقيات الاقتصادية الموقع عليها ووجودهما ضمن منظومة اقتصادية رأسمالية حرة لم تدخل التجارة في العراك السياسي بينهما، خاصة وأن الثمن الذي يمكن أن تدفعه تركيا في مثل هذا النوع من المقاطعة أهم وأخطر من الذي قد تدفعه دولة الاحتلال وأن عمق العلاقات التركية الإسرائيلية الممتد لعشرات السنين مع الأسف جعلها معتمدة في الكثير من المجالات على الاحتلال وحلفائه.

ورغم خطأ العلاقة ورفضها مع الكيان الصهيوني من قبل أي طرف كان وعلى رأسهم تركيا فإنه يجب التفريق بين دولة لها علاقة قديمة عمرها أكثر من سبعين سنة وكانت تعد الحليف الأهم للاحتلال في المنطقة، ثم تراجعت علاقتها بوضوح منذ قدوم العدالة والتنمية وتحولت للندية بدل التبعية ودخلت مرحلة اعتبر طرفاها بعضهما بعضًا خصمين، كما أن الاحتلال اعتبر تركيا تهديدًا لمصالحه، كما أن الطرفين يحملان مشروعين متنافسين في المنطقة، تلك العلاقة إذًا لا يعقل مقارنتها بعلاقة جديدة تصنع اليوم من دولة عربية كانت ضمن منظومة عربية أعلنت مرارًا وتكرارًا رفض الاحتلال والعداء له ما لم يعد حقوق الشعب الفلسطيني المظلوم وهي علاقة تصنع من خلف ظهر كل قوى وفصائل الشعب الفلسطيني ورغم رفضه وانتقاده لها.

الموقف التركي من الاتفاقية الإماراتية مع الاحتلال

أما ردة الفعل الواضحة والحادة من الاتفاقية التي وقعتها دولة الإمارات العربية المتحدة مع دولة الكيان الغاصب والحديث عن احتمال قطع العلاقة مع الإمارات نتيجة هذه الاتفاقية التي تعتدي على حقوق الشعب الفلسطيني، فإن تركيا لم ترها اتفاقية تزيد عدد الدول المعترفة بالاحتلال وهي بالعشرات في العالم، لكنها تراها اتفاقية أعدت في تل أبيب وأعلنت من واشنطن وأنها استمرار لحرب الإمارات على حلفاء تركيا وأصدقائها الذين تعتبر السلطة والفصائل الفلسطينية جزءًا منهم. وكذلك لكون هذا الاتفاق تحولًا استراتيجيًّا في المنطقة لصالح الكيان الصهيوني المحتل الذي استغل موجة الخوف التي تعيشها الأنظمة العربية بعد ثورات الربيع العربي لتزيد من وتيرة سيطرتها على هذه الأنظمة لصالح المشروع الصهيوني خاصة في منطقة الخليج العربي والدول التي للإمارات تأثير عليها.

وترى تركيا أن هذا الاتفاق يهدد مستقبل القضية الفلسطينية وتجاوز كل القوى الفلسطينية حتى السلطة ويوفر ممرا آمنا لنتنياهو في مشروع الضم وصفقة القرن، وفي نفس الوقت يصنع تكتلا سياسيا معاديا لأي مشروع يدافع عن مصالح دول المنطقة وعلى رأسها تركيا، خاصة وأن الإمارات شكلت الواجهة في الحرب على كل التجارب التي حاولت التخلص من هذه السيطرة أو حاولت التحالف ضد المشروع الصهيوني -الأمريكي في المنطقة وهي الجهات التي سعت تركيا لدعمها وإسنادها أو لنقل إن الإمارات تدعم كل موقف أو مشروع معادٍ لتركيا في المنطقة أو تستخدم أموالها ليكون كذلك. حتى إن الإمارات ورغم عدم وجود أي علاقة لها بالأمر جغرافيًّا، فقد كانت من الدول الداعمة والموجهة لمشاركة بعض الأطراف العربية في التحالف المعادي لتركيا في ملف غاز المتوسط وهي القضية التي تعتبرها تركيا قضية أمن قومي ومستعدة لخوض المعارك لأجلها.

أي أن تركيا العدالة والتنمية التي سعت في كل فرصة لإضعاف علاقتها المستمرة منذ أكثر من سبعة قرون مع الاحتلال، ودعمت الكثير من المشاريع السياسية والاقتصادية التي تساعد دول المنطقة على الاستقلال من التبعية للوبي الصهيوني في المنطقة، ودعمت القضية الفلسطينية سياسيا وحملت الملف الفلسطيني معها في كل المحافل وساندت القدس وأهلها- لدرجة أن أعتبر الاحتلال الأتراك وأردوغان شخصيًّا أحد أهم أعداء مشروع التهويد -تعد أن هذه الاتفاقية إعلان حرب عليها وعلى حلفائها وأصدقائها وترسيخًا للمشاريع الصهيونية فيها.