فوجئ كثيرون، حين سمحت "إسرائيل"، في أيام عيد الأضحى، بدخول الفلسطينيين إلى داخل الخط الأخضر (فلسطين المحتلة في 1948) بدون تصاريح أو قيود، على الرغم من التعقيدات الكثيرة المفروضة على ذلك، والتي ازدادت منذ انتشار فيروس كورونا. وتسمح "إسرائيل" بدخول العمال الفلسطينيين للعمل في مرافقها، شريطة إلزامهم بالبقاء في "إسرائيل" شهرًا، وعدم السماح لهم بالعودة إلى منازلهم يوميًا، بعكس ما حصل مع دخول آلاف المواطنين الفلسطينيين، من مختلف الأعمار، ومن دون تصاريح، ومن بينهم حتى أولئك الممنوعون من دخول "إسرائيل" لأسباب أمنية إسرائيلية، وقد فتحت سلطات الاحتلال ثغرات وفتحات عديدة في الجدار العازل، ووقف الجنود الإسرائيليون يشاهدون دخول الفلسطينيين وغضّوا الطرف عن ذلك، على الرغم من أنه في الوضع الطبيعي، كان الجنود يمنعون دخولهم من الجدار ويلاحقونهم، وكثيرًا ما تم إطلاق النار عليهم في أثناء محاولاتهم ذلك، ما أدى إلى إصابة بعضهم واستشهاد آخرين.
فتح السلوك الإسرائيلي نقاشًا فلسطينيًا كبيرًا، وخصوصًا بسبب انتشار فيروس كورونا، والعلاقة السيئة بين السلطة الوطنية الفلسطينية وحكومة "إسرائيل"، بسبب نية "إسرائيل" ضم أجزاء من الضفة الغربية، والذي دفع السلطة إلى وقف التنسيق الأمني والمدني مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وشمل حتى الحالات الإنسانية والمرضية، حيث تركز النقاش الفلسطيني حول الأسباب التي دفعت "إسرائيل" إلى السماح بهذا الدخول الجماعي للاستجمام على شواطئ البحر المتوسط، وخصوصًا شواطئ يافا وحيفا وعكا، وما تمثله هذه المدن في الوعي الجمعي والذاكرة الفلسطينية. وقد اعتبر فلسطينيون أن العامل الاقتصادي كان السبب، في ظل تراجع الاقتصاد الإسرائيلي الناجم عن انتشار فيروس كورونا، وانضمام حوالي مليون إسرائيلي للعاطلين عن العمل، ويرى أصحاب هذا الموقف أن "إسرائيل" أرادت دعم الاقتصاد الإسرائيلي، وتحديدًا شركات النقل والمطاعم، مع أن ذلك، في الحقيقة، لا يشكل عائدًا ماليًا قويًا للاقتصاد الإسرائيلي، لعدم إنفاق أموالٍ كثيرة، وأن الفئة المستفيدة من دخول الفلسطينيين هم مئات السائقين الفلسطينيين، حملة الجنسية الإسرائيلية، الذين ينقلون الداخلين من الحواجز الإسرائيلية إلى الداخل، كما تستفيد عشرات المطاعم المملوكة أيضًا للفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية في المدن الساحلية، وعلى الرغم من أنهم جزء من الاقتصادي الإسرائيلي، إلا أنهم لا يحتلون مكانةً مهمة فيه.
ويشكِّل سماح إسرائيل بدخول آلاف الفلسطينيين، ودون أي معايير، جزءًا من خطة مدروسة وممنهجة، أعدتها مجموعة من علماء النفس والاجتماع وخبراء في الأمن، ومن أكاديميين إسرائيليين متخصصين بالشأن الفلسطيني، وتهدف إلى إحداث تغيير في الوعي الجمعي الفلسطيني، خصوصًا فئة الشباب، الذكور والإناث، من خلال تعريف الجيل الفلسطيني على ما سمته الخطة الإسرائيلي الآخر، الذي يعيش في "إسرائيل" في نمط علماني فرداني، ولا يتدخل في شؤون الفلسطينيين، بعكس المستوطنين والجنود الإسرائيليين الذين ينكّلون ويقتلون ويعتقلون ويعتدون على الشعب الفلسطيني وممتلكاته بشكل يومي، والذي يتسبب سلوكهم في زيادة كراهية الفلسطينيين "إسرائيل". وتفترض الخطة أن مشاهدة الفلسطينيين للإسرائيلي الآخر في أثناء رحلتهم قد تؤدي إلى تخفيفٍ من حدة كراهية الفلسطيني تجاه "إسرائيل"، وتغيير النظرة العدائية تجاهها، من عدو محتل ومغتصب، لتصبح جاره أو مجتمعًا إنسانيًا مسالمًا، ولا يعتدي على الفلسطينيين. وتفترض الخطة الإسرائيلية المذكورة أن مجرّد السماح للفلسطينيين بالدخول إلى "إسرائيل" بدون تصاريح، أو حتى بدون المطالبة الفلسطينية بذلك، قد يؤدي إلى أنسنة الاحتلال وإظهاره معنيًا بمصلحة المواطنين الفلسطينيين ورفاهيتهم، والتخفيف من معاناتهم الحياتية، ومحاولة إشاعة وعي عند شريحة واسعة من الفلسطينيين بأن "إسرائيل" ليست المشكلة بل الحل، حيث المجتمع الفلسطيني شاب، وتحرم شبابه وفتيته المعايير الإسرائيلية إمكانية الحصول على تصريح دخول لـ"إسرائيل"، وهم الذين لم يروا طوال حياتهم سوى المستوطنين والجنود الذين عمّقوا الصورة السيئة الكريهة للإسرائيلي في الوعي الجمعي الفلسطيني، وهذا ما تعمل "إسرائيل" على اختراقه وتغييره.
وتعمل "إسرائيل" في ذلك على تدجين الفلسطينيين، عبر منعهم من التفكير في الشأن العام، أو في الاحتلال ومقاومته، وانتشرت، في السنوات الأخيرة، عشرات صفحات "فيسبوك" الإسرائيلية باللغة العربية المموّلة، والموجهة إلى الشعب الفلسطيني، بأسماء ضباط إسرائيليين، وتسميات أخرى، تدعو الفلسطينيين إلى الاهتمام في شؤون حياتهم الخاصة، وألا يتدخلوا في السياسة، و"أن يمشوا الحيط الحيط"، ليحصلوا في مقابل ذلك على التسهيلات الإسرائيلية، ومنها السماح لهم بالدخول لـ"إسرائيل"، سواء للعمل في ظل فشل السلطة الفلسطينية في توفير فرص عمل للشبان، وخصوصًا أولئك الخرّيجين الجامعيين، بسبب القيود التي قبلتها منظمة التحرير الفلسطينية في اتفاقية إعلان المبادئ (أوسلو) ثم في اتفاقية باريس التي تمنع السلطة الفلسطينية حق إقامة كيان اقتصادي مستقل، وتبقيه تابعًا للاقتصاد الإسرائيلي، بمعنى أن "إسرائيل" أصبحت تستخدم دخول الفلسطينيين إلى الداخل أداةً للتحكّم في الشعب الفلسطيني وضبطه، فيما يصب بمصلحتها المتمثلة بإحكام منظومة السيطرة، والتحكّم في الشعب الفلسطيني، لصرف أنظاره عن الاحتلال، وتحويله إلى مشروع سياسي واقتصادي مربح، كما وصفه الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في أكثر من مكان، بفندق خمس نجوم.
السماح الإسرائيلي لآلاف الفلسطينيين بالدخول إلى الداخل الفلسطيني، على الرغم من التوتر الأمني على الحدود الشمالية مع سورية ولبنان، واحتمالات التصعيد والمواجهة العسكرية هناك، يندرج ضمن سياسة "إسرائيل" فصل الجبهات المختلفة للاستفراد بها، وهي التي تريد، في المرحلة الحالية المتوترة، سواء على جبهات غزة أو الشمال، أن تحيّد الضفة الغربية ذات الكثافة الاستيطانية والعسكرية العالية، عبر إشاعة أجواء من التفاؤل والهدوء في الضفة الغربية وتخفيف الاحتقان، للتفرغ الكامل لمواجهة احتمالات التصعيد على باقي الجبهات، وذلك لأسباب عسكرية وأمنية وسياسية، وخصوصًا تفتيت المواقف العربية والفلسطينية، وعدم السماح بموقف فلسطيني وعربي موحّد ومنسجم.
تبدو السلطة الفلسطينية والفصائل الوطنية والإسلامية غائبة عما يحدث، مع أن بعض المسؤولين، وكذلك المؤسسات الاقتصادية والتجارية، عبروا عن عدم رضاهم عن ذلك، بحجة إلحاق الضرر بالاقتصاد الفلسطيني، عبر إنفاق أموالهم في السوق الإسرائيلي، وليس في المرافق الاقتصادية الفلسطينية، إلا أن هذا التبرير ليس مقنعًا، سواء للأسباب الاقتصادية أو الوطنية والسياسية، وكان على القيادة والفصائل والسلطة ووزاراتها ومؤسساتها التعليمية والتربوية والثقافية تشجيع ذهاب جميع الشعب الفلسطيني إلى الداخل، ودعمه، وأن يكون هذا الأمر جزءًا من استراتيجية وطنية للحفاظ على الذاكرة الفلسطينية، وربط الأجيال الفلسطينية بفلسطين التاريخية ومدنها وقراها التي تعرّضت لعمليات إلغاء وتهويد ممنهجة، وصناعة أسماء عبرية لها بعد طمس الأسماء العربية، في الوقت الذي يغيب هذا عن المنهاج التعليمي الرسمي للسلطة الفلسطينية في كل مراحله. وبذلك يتم إفشال المشروع الاستعماري الاسرائيلي بتدجين الفلسطينيين وإنتاج جيل فلسطيني جديد يرى "إسرائيل" جارةً وجزءًا طبيعيًا من المنطقة، لا بل إن التوظيف الوطني الفلسطيني لتلك الرحلات الجماعية يعيد وضع "إسرائيل" في مكانتها الطبيعية في الوعي الجمعي عدوًا محتلًا.