أقل من عشر سنوات هي الفترة بين ولاية نفتالي بينيت مديرًا عامًّا لمجلس مستوطنات الضفة الغربية (يهودا والسامرة) ووجوده اليوم رئيسًا للحكومة الإسرائيلية، بعد إطاحة سلفه نتنياهو الذي استمر أكثر من عشر سنوات رئيسًا للحكومة. وبعكس توقعات بعضهم الذين راهنوا على أن إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قد تكبح طموحات نفتالي بينيت الاستيطانية، في حين اعتقد آخرون أن ضعف التركيبة الحكومية، وخصوصًا الحرج الذي تعرض له ممثل الحركة الإسلامية (الجناح الجنوبي)، منصور عباس، بتحالفه مع حكومة بينيت قد يحد من شهية نفتالي بينيت الاستيطانية العدائية ضد كل ما هو فلسطيني، أثبتت الأسابيع الأولى لوصول الرجل إلى رئاسة الحكومة أنه يعدُّ وجوده رئيسًا للحكومة فرصة سانحة لتنفيذ مخططاته الاستيطانية التي لم يستطِع تنفيذها حين كان مديرًا عامًّا لمستوطنات الضفة الغربية، ويرى نفسه رئيسًا لحكومة المستوطنين، وليس لكل (إسرائيل).
معارضة جزء من المستوطنين المتدينين لتحالف نفتالي بينيت مع قائمة منصور عباس وحزب ميرتس، وتعرضه لانتقادات حادة من النواة الأيديولوجية في مستوطنات الضفة الغربية دفعه إلى إبداء مزيد من التشدد والتطرف، وهذا ما تم التعبير عنه في إقرار بناء أكثر من ألفي وحدة استيطانية يهودية جديدة تقع في المستوطنات التي تسمى عشوائية، بغرض تسمينها وتضخيمها، لضمها للكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، والتي حصلت على اعتراف الإدارات الأمريكية بدءًا من إدارة الرئيس جورج بوش الابن وحتى إدارة بإيدن الحالية.
بدأت حكومة نفتالي بينيت قبل أيام بأعمال بناء حول الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، متذرعة ببناء مصعد لصعود الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة من اليهود القادمين إلى الحرم بمساحة 400 متر مربع، إذ إن بينيت كان قد قرر، حين عمل وزيرًا للتربية والتعليم في حكومة نتنياهو، إلزام طلبة المدارس اليهود بزيارة الحرم سنويًّا، لإيجاد صلة ورابط بينه (الحرم) واليهود، انسجامًا من الرواية الصهيونية المصطنعة أن الخليل تعد مدينة الآباء، وأن الحرم الإبراهيمي (مغارة المكفيلا) هو مقبرة أنبياء اليهود.
تهدف حكومة الاحتلال من أعمال البناء الحالية إلى تغيير معالم الحرم الإبراهيمي العمرانية العربية الإسلامية، وإقامة أبنية استيطانية أقرب، من حيث الشكل والمظهر، إلى الكنس اليهودية والمباني الغربية، وربط الحرم بشارع سريع مع مستوطنة كريات أربع، ومن ثم ربطها مع كل أنحاء (إسرائيل)، ما يمكن أي إسرائيلي في أي مكان بين البحر والنهر من الوصول في مدة وجيزة، أما الفلسطيني الموجود على بعد عشرات الأمتار من الحرم فيحتاج إلى ساعات طويلة بسبب عمليات التفتيش والإعاقة التي يمر بها عبر بوابات وحواجز عديدة مقامة على مداخل الحرم الإبراهيمي، المخصصة للمسلمين فقط.
كان وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، قد أصدر، في عام 2017، قرارًا بتشكيل بلدية خاصة للمستوطنين اليهود في البلدة القديمة من الخليل، وذلك بعد شهر من إعلان منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم (يونسكو) الاعتراف بالخليل القديمة، بما فيها الحرم الإبراهيمي، ضمن المواقع التراثية العربية الإسلامية. وتكمن خطورة تشكيل بلدية خاصة لمستوطني البلدة القديمة في الخليل، والذين لا يتجاوز عددهم ألف مستوطن، أن تشكيل البلدية يعني منع بلدية الخليل الفلسطينية من تقديم خدماتها في كل أنحاء المدينة، حسب اتفاقية الخليل الخاصة في أوسلو، والتي قسمت مدينة الخليل إلى قسمين: الأول H1، ويتبع للسلطة الفلسطينية، وهو الأكبر، ويضم أكثر من 80% من مساحة الخليل، ويعيش فيه أكثر من مائتي ألف فلسطيني، فيم حين بقي القسم الثاني H2، ويشكل 20% من مساحة المدينة، ويضم حوالي 40 ألف فلسطيني، وفيه أهم معالم المدينة، وخصوصًا الحرم الإبراهيمي وتل رميدة والسوق القديم وغيرها من الأماكن التاريخية، وبقي تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، بسبب وجود عدة بؤر استيطانية فيه، بدلًا من إخلائها وإخراجهم، ولكن خدمات الصحة والتعليم وغيرها بقيت تتبع لبلدية الخليل.
توجهت بلدية الخليل ومؤسسات السلطة الفلسطينية الأخرى إلى المحاكم الإسرائيلية لإيقاف تنفيذ مشروع البناء في محيط الحرم الإبراهيمي، لتداعياته التي تمس أهم المقدسات الإسلامية في المدينة، إلا أن ما تسمى محكمة (العدل العليا) الإسرائيلية قد رفضت التماس بلدية الخليل، ووافقت على قرارات البناء الاحتلالية، ما يؤكد أن القضاء والمحاكم الإسرائيلية تشكل جزءًا مهمًّا من منظومة الاحتلال، في ما يخص الشعب الفلسطيني وإحكام قبضة الاحتلال عليه، إذ يعد إصرار سلطات الجيش والقضاء الإسرائيلي على مواصلة البناء في الحرم، رغمًا عن بلدية الخليل وكل مؤسسات المدينة ذات الصلة، وخصوصًا وزارة الأوقاف والآثار الفلسطينية، إلغاء تامًّا لكل مؤسسات السلطة الفلسطينية العاملة في الجزء الخاضع لسيطرة الاحتلال الأمنية، على الرغم من أن برتوكول الخليل أبقى الصلاحيات المدنية والخدماتية في ذلك الجزء ضمن صلاحيات السلطة وبلدية الخليل، وأن ذلك يعني فرض الضم الإسرائيلي على المدينة بشكل فعلي، بعيدًا عن الإعلانات، خوفًا من إغضاب الإدارة الأمريكية الجديدة، وحرصًا على بقاء تماسك حكومة نفتالي بينيت من الانهيار، وخصوصًا بعد تهديد عضو كنيست من حزب ميرتس بإسقاط هذه الحكومة إن ذهبت باتجاه فرض الضم على بعض المناطق الفلسطينية.
إصرار سلطات الاحتلال على مواصلة البناء في الحرم الإبراهيمي، ضاربة عرض الحائط بمواقف كل المؤسسات الفلسطينية والدولية، خطوة متقدمة على طريق التهويد التام للمدينة وفرض الضم. ويخشى الفلسطينيون أن تُقدم حكومة نفتالي بينيت على تنفيذ تشكيل البلدية الخاصة بالمستوطنين، والذي يعني إخضاع كل البلدة القديمة لسلطات البلدية الاحتلالية الجديدة ومسؤولياتها من بناء وعقارات وسكان، وأن تستغل بلدية المستوطنين الفرصة، وأن تضع اليد وتصادر كل المحال المغلقة منذ مجزرة الحرم الإبراهيمي على أيدي المجرم باروخ غولدشتاين في رمضان من عام 1994، والمحال التجارية التي أغلقتها سلطات الاحتلال منذ الانتفاضة الثانية، والتي يتجاوز عددها الألفين، وأن تسلم هذه المباني والمحال للمستوطنين لزيادة عددهم، ما يعني تغييرًا كبيرًا في التركيبة الديموغرافية للجزء الخاضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، للوصول إلى حالة تكون فيها نسبة عالية جدًّا من التركيبة السكانية من اليهود، لدعم الرواية التوراتية الأيديولوجية أن اليهود ليسوا محتلين للخليل، لا بل إنهم الجزء الأهم والأكبر في التركيبة السكانية، على الرغم من أن عدد مستوطني البلدة القديمة في الخليل لم يتجاوز مائتين عشية اتفاقية الخليل. ومن ثم إحداث تحول في طبيعة الصراع من قضية وطنية تحررية ما بين قوة الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، وتحويل القضية إلى مشكلة خدمات سكانية، إن كانت تتبع لبلدية المستوطنين الاحتلالية الطارئة أم بلدية الخليل الأصلية، وإحداث تغيير في المرجعيات القانونية، بدل القانون الدولي الذي يخص المناطق المحتلة أم المحاكم الإسرائيلية.
ما يجري الآن في مدينة الخليل مرحلة مفصلية من مراحل تهويد الخليل وإفراغها من سكانها الفلسطينيين الأصليين، في امتداد لاتفاقية الخليل التي أبقت البلدة القديمة تحت سيطرة الاحتلال، ثم بمرور الزمن تحولت إلى منطقة مغلقة، وتكاد تكون مدينة أشباح للشعب الفلسطيني، بعد أن أصبح التحول والتنقل فيها خطرًا جدًّا، إذ قتلت (إسرائيل) العشرات بحجج واهية، بغرض تخويف الناس من البقاء في ذلك الجزء من المدينة، ودفعهم إلى الرحيل باتجاه الجزء الخاضع للسيطرة الفلسطينية، فهناك أجهزة أمن فلسطينية ونظام قضائي، بعكس المنطقة الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، والتي أصبحت، بفعل سياسات الاحتلال أوكارًا للجريمة والمخدرات وتجارة السلاح و"الخوات".
على الرغم من تقسيم سلطات الحرم الإبراهيمي زمنيًّا ومكانيًّا، بناءً على قرارات لجنة شمغار الإسرائيلية التي حققت في مجزرة الحرم الإبراهيمي في 1994، إذ عاقبت الضحية وكافأت الجلاد الإسرائيلي الذي أصبح يسرح ويمرح ويعربد ويقتل، بحماية كاملة من الاحتلال، في حين أصبح ما تبقى من فلسطينيين يعيشون في ذلك الجزء إلى حياةٍ مليئةٍ بالخوف والقلق، الأمر الذي يوضح أن أعمال البناء الحالية في الحرم الإبراهيمي يُراد منها تفريغ من تبقوا من سكان فلسطينيين في الخليل، ودفعهم إلى الرحيل، ليحل محلهم مستوطنون يهود من أكثر شرائح المستوطنين حقدًا وتطرفًا.