تنطلق بعض الرؤى الفلسطينية والعربية في تعاطيها مع الشأن العام الفلسطيني أو العربي من جملة من الحقائق المجتزَأة عن الدولة الصهيونية، معتقدين بصوابية الاجتزاء في بعض الجوانب التخصصية كالاقتصاد أو السياسة في إطار مقارنة تخصصية بحتة؛ لا سيما في مجالات الصناعة والقدرة الإنتاجية والكفاءة التنافسية العالمية، ومعدل دخل الفرد، والممارسة الديمقراطية الدورية متمثلة في انسيابية تبادل السلطة من شخص أو حزب إلى آخر. إذ غالبا يجري ذلك بغرض تسليط الضوء على مكامن الخلل والفشل العربي الرسمي وربما الشعبي أيضًا في هذه الحقول، مقارنة مع تفوق الدولة الصهيونية رغم افتقادها للشرعية التاريخية، ورغم رفضها إقليميًا نتيجة الحروب العسكرية العديدة التي انخرطت بها، وممارستها تطهيرًا عرقيًا بحق الشعب الفلسطيني، وبنائها مجتمعًا استيطانيًا هجينًا غير متجانس. وهي مقارنات أعتقد أنها تخل بشروط البحث العلمي الموضوعي رغم استنادها إلى حقائق ومؤشرات رقمية لا خلاف حول دقتها.
ونلاحظ، من خلال مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي، تفوّق اقتصاد الدولة الصهيونية (قرابة 390 مليون دولار في العام 2019) على مجمل الاقتصادات العربية باستثناء قطر. كما يبدو عبر التدقيق في آليات تبادل السلطة أو الحكم مدى تطور منظومة الدولة الصهيونية الديمقراطية مقارنة بالمنظومة العربية الخاوية من أي ملمح ديمقراطي إذا ما استثنينا التجربة التونسية في المرحلة التي أعقبت الثورة. إذ تتم إدارة مؤسسات الدولة الصهيونية الحزبية والخدمية والسلطتين التنفيذية والتشريعية عبر عملية انتخابية دورية، نادرًا ما توقفت ولو آنيًا مهما كان الظرف والوضع. إلا أنها مؤشرات خادعة ولو نسبيًا، بمعنى أنها لا تعكس قدرة الدولة الصهيونية على تحقيقها كما لا تعبر عن حقيقة الوضع الميداني كاملا، ما يتطلب مرورًا، ولو سريعًا، على بقية المشهد الاقتصادي والسياسي الذي يمثل الجزء الخفي أو المخفي من الصورة البراقة التي تسعى الدولة الصهيونية لعرضها من قبل البعض وتتعمد انتشارها، دون أن يقلل هذا التوضيح من حقيقة الوضع العربي الرث، ومن مسؤولية النظام العربي عنه.
فمن ناحية اقتصادية، لا يصح الاكتفاء ببعض المؤشرات الاقتصادية وانتزاعها من مجمل السياق الاقتصادي العام، ولا سيما في ما يتعلق بالدعم الاقتصادي غير المحدود للدولة الصهيونية، متمثلا بالدعم التقني عبر تزويد الدولة الصهيونية بأحدث التقنيات والخبرات الصناعية العالمية، في مقابل منعها عن جميع الدول العربية، بما فيها تلك المتحالفة مع الولايات المتحدة الأميركية وعلى رأسها دول الخليج؛ أو بما يخص دعم صادرات الدولة الصهيونية بمعزل عن المعايير الاقتصادية الرئيسية وأهمها النوعية والسعر (خصوصًا في البدايات الصناعية)، أو دعم شركات الاحتلال الصناعية والاستثمارية عبر منحها عقودًا خارجية مضمونة الربحية؛ مثل بناء جدار فصل عنصري على الحدود الأميركية - المكسيكية المشتركة؛ ومئات العقود والدلائل التي تساهم في ازدهار اقتصاد الاحتلال بفعل خارجي مدروس ومقصود. لذا، لا يصح نسب إجمالي ناتج الدولة الصهيونية المحلي إلى نجاحه في إدارة وتطوير قدراته وإمكانياته المجتمعية فقط، بقدر ما تعكس هذه الأرقام موقعه المحوري والمركزي في مجمل المنظومة العالمية الإمبريالية، سياسيًا واقتصاديًا.
كما تغيب العديد من المؤشرات الاقتصادية الأخرى التي تعبر عن غياب العدل والمساواة في توزيع الثروة، والتي تعبر عن المضمون الطبقي لهذه الدولة، وعن طبيعتها العنصرية تجاه العديد من الفئات الاجتماعية اليهودية والعربية، والتي تعكس صورة دولة عنصرية تمارس استغلالا اقتصاديًا وبشريًا لجماعات (عرقية وقومية) عديدة في خدمة مصالح الفئة المسيطرة، أي تعزز سياسات الدولة الصهيونية من سيطرة فئة من اليهود من أصول أوروبية (الأشكناز) أساسًا، وتراكم ثرواتهم على حساب استغلال اليهود العرب والأفارقة والروس، بالإضافة إلى استغلال الفلسطيني حتى نفيه (إذ إن نفي الفلسطيني هو هدف الاحتلال الأول). وهو الجزء الاقتصادي فقط من سياسات الفصل العنصري اليومية، فيما يدحض شقه السياسي مقولة ديمقراطية الدولة الصهيونية. إذ لا يجوز حصر تعريف الديمقراطية بالعملية الانتخابية الدورية حتى لو حصلت على مدار سنوات عديدة، فالديمقراطية هي شكل وأسلوب إدارة ينظم حكم الشعب ويؤطره من خلال مجموعة من النظم والقوانين والممارسات التي تشكل العملية الانتخابية إحدى تمظهراتها فقط، أي هي وسيلة لممارسة حكم الشعب وليست غاية بذاتها، من دون التقليل من أهمية الشكل والممارسة الانتخابيين.
لذا، نعم، تمارس الدولة الصهيونية عمليات انتخابية دورية، لكنها مجرّدة من القيم الديمقراطية المركزية، خصوصًا إذا كانت لا تتعلق بالمواطنين اليهود، مثل المساواة في الحقوق والحريات العامة، والحريات السياسية للجميع، وحق التعبير عن الرأي وحرية الصحافة (فرض الرقابة العسكرية)، فضلا عن حرية الاعتقاد للجميع؛ إذ تفرض قوانين الدولة الصهيونية مجموعة من الاشتراطات التي تحد من آراء وحقوق المرشحين للانتخابات وخصوصًا في انتخابات الكنيست، من خلال اشتراط الاعتراف بيهودية الدولة؛ قانون أساس الكنيست مع تعديلاته العديدة؛ قانون "مكافحة الإرهاب"؛ وصولا إلى قانون الولاء في الثقافة الذي يقوض ويأسر العمل في الحقل العام ثقافيًا وسياسيًا، وهو ما يضعنا أمام حقائق تتناقض كليًا مع المفهوم والتعريف السائد اليوم عن الديمقراطية الليبرالية، بمعزل عن أوجه قصورها الآن؛ إذ تُفرّغ هذه القوانين وربما غيرها أيضًا الديمقراطية من جوهرها الحقيقي القائم على المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، بما يكفل الحق في الممارسة السياسية وفي التعبير عن الرأي وفي العمل بالحقل العام للجميع دون قيد أو شرط.
وبالتالي لا تمثل الدولة الصهيونية نموذجًا ديمقراطيًّا عالميًّا أو حتى إقليميًّا أو عربيًّا، بل على العكس تمامًا تمثل نموذجًا عنصريًا منفّرًا، كما لا تعبر عن ديمقراطية منقوصة كما يحلو للبعض وصفها، بقدر ما تعبر عن حكم استبدادي عنصري إجرامي إقصائي وإحلالي مغلق، ورافض للآخر المختلف بالشكل واللون والعقيدة والرأي، رغم الممارسة الانتخابية الدورية. فالعملية الانتخابية الحاصلة هي مجرد آلية تعكس تبادل المسؤوليات الفردية (ضمن إطار عقائدي محكم الضبط) دون المساس بجذر وطبيعة المشروع الحقيقي. لذا لا أعتقد بصحة مقارنة الدولة الصهيونية بأي من دولنا العربية الاستبدادية ذات الاقتصاد التابع غير المنتج، حتى لو كان الغرض تحفيز النظام الرسمي والجسم السياسي والمجتمع العربي على المسار الديمقراطي وعلى تطوير القدرات الإنتاجية، حيث لا يعبر نموذج الدولة الصهيونية عن مطامح وآمال شعوب المنطقة العربية بالحرية والديمقراطية، بسبب عنصريته البغيضة بالحد الأدنى، وبسبب إجراميته بالمجمل، كما لن تحظى الدول العربية بدعم اقتصادي وتقني عالمي كالذي تحصل عليه الدولة الصهيونية. نعم، تمثل الأنظمة الاستبدادية التابعة إحدى أهم أسباب الوضع العربي الرث، بيد أنها مجرد عقبة وحيدة في مسار التطور العربي سياسيًا واقتصاديًا، المجبر على مواجهة إرادة القوى العالمية المسيطرة، وهو ما واجهته الحركة الثورية العربية في طوريها الأول والثاني حتى الآن، وهو ما يتطلب منا الاستعداد لهذه المواجهة الشاملة في قادم الأيام إن رغبنا حقًا في بناء دولة عربية حديثة ديمقراطية، ذات اقتصاد متين منتج ومتطور صناعيًا وزراعيًا.