تصاعدت الموجات الاحتجاجية المنظّمة والعفويّة في مناطق الضفة الغربية الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، على خلفية تعدّد وتوغل مظاهر الفساد السياسي والمالي والإداري، الذي بات يلتهم كل شيء تقريبًا، ويزيد من صعوبة الحياة اليومية، التي تتحمل الدولة الصهيونية مسؤوليتها أولًا، والسلطة ثانيًا؛ وهو ما يعكس دور السلطة الوظيفي الحقيقي كجزء عضوي في المنظومة الصهيونية التي تحتل الأرض الفلسطينية، وتستأثر بالحق الفلسطيني الفردي والجماعي.
لكن، وعلى أهمية هذه الحركة الاحتجاجية الشعبية، وعلى التوازي مع شرعية مطالبها، إلا أن خصوصية وتعقيد الوضع الفلسطيني العام ينعكس عليها أيضًا. الأمر الذي يتطلب تجذير مطالبها وخطابها المطلبي والسياسي من ناحية، كما يحتاج إلى تهيئة المناخ الشعبي والوطني الداعم لها والمعنيّ بها للمرحلة المقبلة من ناحية ثانية، على اعتبارها مرحلة المواجهة مع مجمل المنظومة الخادمة للدولة الصهيونية، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وأمنيًا، وربما لمواجهة الصهيونية بذاتها أيضًا.
فنتيجة الخصوصية الفلسطينية، وبحكم الظروف والبيئة التي شَكّلت السلطة الفلسطينية، نلحظ العديد من المؤشرات التي تؤكد أن الفساد المالي والإداري السلطوي، يمثل مركبًا عضويًا ورئيسيًا في البنية الوظيفية السلطوية التي رعتها وبنتها الدولة الصهيونية والمجتمع الدولي؛ وهو ما ينعكس من خلال دور المجتمع الدولي والدولة الصهيونية في تركيب وتشكيل أجهزة السلطة الأمنية ومؤسساتها الخدمية، التي تخضع لمراقبتهم وسيطرتهم على المستويين التنفيذي والتنظيمي، أي على مستوى متابعة الأداء وتوجيهه أحيانًا، وعلى مستوى اختيار الأشخاص ولا سيما في المستوى القيادي والتمثيلي؛ وهو ما يتناقض مع مفهوم العمل المؤسساتي الذي يتجسّد في مقولة الشخص المناسب في المكان المناسب، ليتم استبداله بمقولة الشخص المقبول صهيونيًا ودوليًا في المكان المتحكم والمسيطر إداريًا وتنفيذيًا.
لذا لا تحتكم دوائر السلطة ولجانها ومؤسساتها لقاعدة الكفاءة المهنية، أو الفاعلية الميدانية حتى، بقدر ما تحتكم لشروط الدولة الصهيونية الأمنية والسياسية، وهو ما يحولها إلى منظومة في خدمة أمن واستقرار الدولة الصهيونية بدلًا من خدمة الفلسطينيين من ناحية، وإلى بنية تنظيمية ضيقة تدور في فلك مجموعة محددة من الأشخاص والأفراد ذوي العلاقات الحسنة مع الدولة الصهيونية من ناحية أخرى. وبالتالي، يصعب حصر مكافحة فساد السلطة الإداري والمالي في خانة ملاحقة بعض رموز هذا الفساد الآني فقط، دون ملاحظة أصل المشكلة المصطنعة المولدة للفساد الإداري والمالي، المتمثلة في طبيعة السلطة الوظيفية التي شكلتها وصاغتها الدولة الصهيونية.
وهذا كله يفرض على مجمل التحركات الوطنية المحقة التي تستهدف فساد السلطة، تطوير خطابها المطلبي والسياسي، بصورة تنطلق من مواجهة مظاهر الفساد الفردي، إلى رفض ونقد المنظومة المولدة لهذا الفساد، وهو ما يجذر الحركات المطلبية سياسيًا، ويضفي عليها بعدًا وطنيًا فلسطينيًا جامعًا، يتجاوز حدودها الجغرافية الضيقة التي فرضتها الصهيونية وكرستها السلطة الوطنية منذ توقيع اتفاق أوسلو. فالفساد الإداري والمالي السلطوي الفج اليوم، هو مظهر من مظاهر بنيتها الفاسدة، بالحد الأدنى؛ هذا الفساد الذي تخلى عن الحقوق الفلسطينية في مقابل وهم سلطوي خادع، ساهم في تكريس السيطرة والمصالح الصهيونية، في مقابل شرذمة الشعب الفلسطيني سياسيًا وجغرافيًا، وإضعاف قواه التحررية، وكبح قواه الشعبية داخل وخارج فلسطين. وعليه، فإن معركة فلسطينيي الضفة اليوم في مواجهة فساد السلطة، هي الخطوة الأولى في معركة مجمل الشعب الفلسطيني لاستعادة روايته الشرعية ومساره النضالي التحرري والإنساني والتقدمي الشرعي والمحق.
لذا وانطلاقًا من أن الفساد الفردي السلطوي هو ستار يحجب أصل فساد السلطة البنيوي، نجد أن إزاحة بعض الأسماء الفاسدة من هنا أو هناك، لا تسمن ولا تغني من جوع، فهي لا تؤدّي إلى إحداث أي تغير واضح وملموس في حياة الفلسطينيين اليومية، لأن بديل الفاسد المفضوح، هو فاسد مستتر جديد، زكّته الصهيونية والمجتمع الدولي لثقتها به وبتوجهاته التي تعلي من مصلحته الذاتية على حساب مصالحنا الوطنية؛ وذلك بحكم تحكم الدولة الصهيونية والمجتمع الدولي بجميع مفاصل الحياة داخل مناطق السلطة، كتسهيل عبور الفلسطينيين والسلع والتمويل، أي لتسيير الشؤون اليومية البسيطة في الأوضاع والدول الطبيعية. وبالتالي، فإن معركة الفساد هي معركة شاملة مع مجمل بنية السلطة أولًا، ومع دورها الوظيفي ثانيًا، ومع المستفيد منها ثالثًا. أي هي أكبر من مجرد استبدال وزير أو مدير أو مسؤول أمني أو رئيس حكومة أو حتى رئيس السلطة ذاته، لأن البديل الآن ينتمي حتمًا إلى ذات البنية السلطوية الوظيفية الفاسدة أخلاقيًا وسياسيًا وإداريًا وماليًا.
طبعا لا أعني التقليل من أهمية التحركات المناهضة للفساد بأي شكل من الأشكال، فهي تحركات مطلبية محقة بل وضرورية في بعديها الوطني والفردي، بقدر ما أحاول توضيح طبيعة المعركة التي تخوضها هذه التحركات الاحتجاجية ذات الجذور الوطنية، وتحذيرها من محاولات حرفها نحو معركة موجهة قد تخدم مصالح فئوية ضيقة تسعى إلى استبدال هيمنة فردية بهيمنة مغايرة من المنظومة ذاتها. فالحركات المطلبية المناهضة للفساد هي بالتأكيد تحركات احتجاجية اجتماعية محقة ومطلوبة، وعلينا أن نتحمل مسؤوليتنا في كسوها طابعها ومنظورها السياسي القادر على تحقيق مطالب وحاجات المحتجين والصامتين من المقيمين في مناطق سيطرة السلطة من ناحية، ومصالح كامل الشعب الفلسطيني من ناحية ثانية. إذ لا يمكن فصل الحركات الاجتماعية المطلبية عن الرؤية السياسية الأشمل، وعن البرنامج السياسي الوطني، وعن بناء المؤسسات الوطنية الخاضعة لرقابة الشعب من ناحية، والممثلة لمصالح الشعب الفلسطيني، كامل الشعب الفلسطيني من ناحية ثانية.
فمعركة مكافحة الفساد في السلطة اليوم وفق هذا المنطلق، هي معركة وطنية فلسطينية تخص جميع الفلسطينيين داخل وخارج فلسطين، وتسعى إلى تمثيل الشعب الفلسطيني في هياكل إدارية وخدمية وسياسية مستمدة منه، وتناضل من أجله، ومن أجل استعادة حقوقه المستلبة حياتية كانت أم وطنية. وعليه، فنحن مطالبون في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ نضالنا الوطني بتقديم رؤية متكاملة توحد قضيتنا ونضالاتنا المبعثرة اليومية منها والوطنية، لتحل مكان الرؤية التجزيئية والتقسيمية التي كرستها الصهيونية والمجتمع الدولي أولًا، والسلطة الفلسطينية والجسم السياسي الفلسطيني ثانيًا، والتي ندفع ثمنها يوميًا ووطنيًا.