تندر المظاهرات والاحتجاجات الشعبية الداعمة لحقوق شعب (وأرض) فلسطين، التي تخلو من هتافات وشعارات تدعم العمل الفدائي، وهي ظاهرة ملاحظة داخل فلسطين وخارجها، فهناك مئات الشعارات والهتافات المحرّضة على ضرورة استعادة العمل الفدائي. الأمر الذي يعكس وعياً شعبياً (فلسطينياً وغير فلسطيني) تلقائياً فيما ما يخص طبيعة الصراع مع جهاز الدولة الصهيونية الذي يمارس تطهيراً عرقياً بحق شعب فلسطين وأرضها، وتمييزاً عنصرياً تجاه سكان فلسطين الأصليين، إذ ينطلق الشارع في ذلك من إدراكه حتمية الصدام وضرورة تفكيك الهياكل العسكرية والأمنية الصهيونية وهزيمتها، من أجل نيل حرية فلسطين أرضاً وشعباً، واستبدال هذه الهياكل والمؤسسات الإجرامية بمؤسسات فلسطينية بديلة قيماً وهوية، أي مؤسسة حضارية وتقدّمية تجسّد المعنى الحقيقي والكامل لقيم الحرية والعدالة والمساواة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وقانونياً، بل ودستورياً.
ومن ناحية ثانية، يفرض الميل الشعبي العام، المشار إليه هنا، مجموعة من المسائل الواجب الحذر منها، كي لا يتحوّل التأييد الشعبي لهذا الشكل النضالي أو ذاك، إلى عامل من عوامل إعاقة تطوّر النضال الشعبي والوطني، سيما ونحن نشهد اليوم أحد أهم فصول النضال الفلسطيني. طبعاً لا أعني أبداً القطع مع أيٍّ من أشكال النضال، بقدر ما أعني ضرورة تكاملها أولاً والعمل على تجسيد خط سياسي وطني ناظم لها ثانياً، كما توضحه النقاط التالية:
• يتمتع شعب فلسطين بخبراتٍ نضاليةٍ عديدة ومتنوعة، تتراوح من الخبرات السلمية إلى العنيفة، ومن النضال الفردي إلى الجماعي، وذلك على طول التجربة الفلسطينية قبل النكبة وبعدها، أي منذ المرحلة الانتدابية، كما في تجربة الإضراب الشامل ستة أشهر في 1936، ومن ثم في يوم الأرض والانتفاضة الأولى، وكذلك العمل الفدائي في لبنان والأردن، وصولاً إلى المرحلة التي أعقبت توقيع اتفاق أوسلو، وشهدت موجات نضالية متعددة سلمية وغير سلمية، فردية وجماعية. وعليه، فقد جرّب الفلسطينيون مختلف الأشكال النضالية عكس ما يدّعيه هذا الطرف أو ذاك، من رافضي تنوع الأشكال النضالية، ومن المتمسّكين بتقديس شكل نضالي أوحد ووحيد، وخصوصاً الأصوات المتعصبة من ضمنهم الذين يناصبون العداء لبعض الأشكال النضالية، ويحمّلونها مسؤولية إجرام جهاز الدولة الصهيوني، بشكل مباشر أو غير مباشر.
• انتفاضة كل فلسطين، هي انتفاضة الكل الفلسطيني من أجل حرية كل فلسطين وتحرّرها. وعليه، لا بد من حماية (وتطوير) المظاهر النضالية والأطر السياسية والتنظيمية التي تجسّد هذه المفاهيم في المستقبل القريب. أي أولاً بما يخص دعم تطور الانتفاضة وتناميها من حيث حجم المشاركة وساحاتها الجغرافية كي تطاول أكبر شريحة شعبية ممكنة، وكي تخوض صراعها على مختلف الجبهات ونقاط الاشتباك الممكنة، وبفرض الحفاظ على حيوية الانتفاضة واستمراريتها لأطول مدة ممكنة. وثانياً، بغرض تحقيق تطابق بين معاني انتفاضة كل فلسطين وأهدافها من ناحية، وبين الخطاب والبرنامج السياسي من ناحية أخرى. إذ لا تصحّ اليوم المساومة على برنامج تحرير كل فلسطين، استناداً لما جسّدته المقاومة الشعبية في كل فلسطين، وهو ما يعيدنا إلى أهمية نجاح هذه الانتفاضة في فرز لجانها وهياكلها التنظيمية والسياسية المعبرة عنها، سيما في الخطاب والهدف والبرنامج السياسي.
• دور الجسم السياسي وشروطه: يتكوّن الجسم السياسي الفلسطيني من قوى وحركات وفصائل وطنية وإسلامية متعددة، غالبيتها ذات إمكانات وخبرات عسكرية ولوجستية نوعية، كما تضم في صفوفها جزءاً مهماً من الوطنيين المخلصين لقضية فلسطين ومشروعها التحرّري الكامل. وبالتالي، يمكن لهذه القوى الفصائلية لعب دور مهم ومؤثر اليوم ومستقبلاً ضمن شروطٍ محدّدة، أهمها عودتها عن خطيئتها الكبرى، المتمثلة في تبنّيها برنامج الدولتين وفق رؤية تحرّرية أو تفاوضية. إذ فرضت انتفاضة كل فلسطين تعديل هذه المسار التنازلي وتصحيحه. وعليه، لا بد من إقرار مجمل فصائل العمل الوطني والإسلامي بخطاياها هذه وتصحيحها اليوم من دون تردّد، في خضم المعركة الجارية الآن ميدانياً، وإلا فنحن أمام ممارسات انتهازية تسعى إلى ركوب موجة الانتفاضة من أجل تسييرها والسيطرة عليها والتحكّم بمسارها ونتائجها، خدمة لمصالح فصائلية ضيقة لا أكثر، ومن دون أي اكتراث بمآلات مشروع التحرر.
• تصاعد المقاومة الشعبية والعمل الفدائي يساهمان في زيادة الضغط الدولي والإقليمي الرامي إلى ضبط الأمور، واستعادة الاستقرار المزعوم قبل اندلاع الانتفاضة. وعليه، فنحن مقبلون على جولاتٍ عديدةٍ من التدخلات السياسية الخارجية إقليمياً ودولياً، وفي مقدمتها التدخلات الأميركية، التي تعمل على إحياء "حل الدولتين" والمسار التفاوضي المباشر أو غير المباشر. وبالتالي، تعمل على تقويض مسار الانتفاضة التحرّري وتجسيدها العملي لكل فلسطين وللكل الفلسطيني. وهو ما يتطلّب، من ناحية أولى، الحذر من هذه التدخلات المستترة خلف تغيير شكلي في الخطاب الدولي، سيما الأميركي راهناً (كما في الحديث الرسمي الأميركي عن حق الفلسطينيين في الحرية والكرامة والعدالة)، المستهدف بكل وضوح إعادة تعويم حل الدولتين. ومن ناحية ثانية، يتطلب التنبه إلى خطر الاستكانة إلى قدرات الفصائل الكبرى وإمكاناتها، والتسليم بقيادتها الانتفاضة، أو المسار التحرّري، متناسين انحرافاتها السابقة نحو مكاسب فئوية ضيقة، تعكس مطامحها السلطوية والنهبية، فقد أثبتت التجربة الفلسطينية الطويلة إمكانية التوافق الدولي أو الإقليمي مع إحدى القوى المهيمنة والمسيطرة فلسطينياً، بما يتناقض مع رأي الشارع والشعب الفلسطيني، حينما يتراجع الدور والمقاومة الشعبية. في حين يصعب، بل ويستحيل، على أي جهة أو طرف داخلي أو خارجي الخروج عن المسار والنهج الشعبي التحرّري الذي يشمل كل فلسطين، في ظل خوض الشارع صراعه الوطني ميدانياً، وبعد نجاحه في فرز قياداته وهياكله التنظيمية والسياسية ثانياً.
لقد نجحت الانتفاضة في استعادة الروح الثورية فلسطينياً وعربياً وإقليمياً، كما نجحت في استعادة وحدة الصف الشعبي الفلسطيني ووحدة الخطاب الشعبي، لكنها على الرغم من ذلك كله ما زالت أمام امتحانات عديدة ومتعدّدة وشائكة عديدة، لا تقل أهميةً عما أنجزته، بل يمكن القول إن النجاح في المهام المتبقية، ولا سيما على مستوى بناء الهياكل التنظيمية المستمدّة من رحم الانتفاضة، وفرض برنامج تحرّري وطني شامل وجامع، هما المهمتان الأصعب حالياً والأهم على طريق الحرية والتحرّر القادم لا محالة.