أثار القرار التركي القاضي بإعادة جامع آيا صوفيا لسابق عهده جامعًا كما كان منذ فتح إسطنبول حتى إلغاء الخلافة وتأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك، صدًى كبيرًا على الصعيد الإعلامي والسياسي، بل وتسبب في جدليات وأثار بعض النعرات الدينية والفكرية في بعض المناطق العربية، ولكن الغالبية العظمى تكلمت عن مشروعية القرار وإيجابياته وسلبياته.
ومع ذلك فنادرًا ما تجد في المحتوى الإعلامي وحتى ذلك المنشور باللغة التركية من المصادر الموثوقة ما يطرح أسباب ووقائع اتخاذ القرار الذي أقرته حكومة مصطفى كمال أتاتورك عام ١٩٣٥ والذي تسبب بأصل المشكلة بتحويله إلى متحف.
لا أرغب أن يكون هذا المقال نوعًا من المقالات العلمية التاريخية المملة، ولكن من أجل الدقة ولتتضح الصورة اتضاحًا أكبر للقارئ الكريم، سأضطر لسرد بعض الأحداث والمواقف التاريخية بتوقيتاتها المفصلة ونصوصها المنقولة، علمًا بأن هذا المقال أُعِدَّ بعد مراجعة العشرات من المصادر التاريخية المكتوبة والمصورة والتصريحات المعتمدة لمؤرخين أتراك من ذوي الاتجاهات السياسية المختلفة كي لا تكون المعلومة مستندة لخلفيات مؤرخين ذوي مرجعية أيديولوجية واحدة.
أما تحويل آيا صوفيا لمسجد على يد السلطان محمد الفاتح في القرن الخامس عشر، فإنه يعد عند المسلمين كما المسيحيين وكل من كتب تاريخ المنطقة نقطة تحول تاريخية في وجه المنطقة، ورمزًا لانتهاء حقبة تاريخية، وانطلاق حقبة جديدة، لذلك حولها محمد الفاتح إلى مسجد وأعلن وقفها، وأوقف لخدمَتِها العديد من الأملاك والمتاجر والمزارع دونًا عن عشرات الكنائس والمعابد الموجودة في المدينة التي تُركت على حالها، بل أعيد إحياؤها في حينه.
ولا يختلف كثيرًا عن هذا السبب السعي المتواصل للدول الغربية منذ احتلال إسطنبول الأول عام 1918، حيث حاولت القوات الغازية الوصول لجامع آيا صوفيا، فكلف السلطان المستسلم وحد الدين وآخر السلاطين العثمانيين القوة الوحيدة المتبقية لحمايته حسب اتفاق الاستسلام مع دول الحلفاء بتركه وحماية آيا صوفيا، ومنعوا القوات القادمة لنصب الصليب وتعليق أجراس الكنيسة أعلى المبنى بالقوة، وكذلك المطالب المستمرة منذ ذلك الحين وحتى اللحظة من بعض الأطراف المسيحية الغربية بإعادتها إلى كنيسة وكأنهم يريدون إيصال رسالة أن العهد الإسلامي العثماني قد انتهى وعاد لنا مجدنا.
ولكن يبدو أن الرفض الشعبي الكبير داخليًّا، والصدى السلبي العظيم الذي سيتركه قرار تحويل الجامع إلى كنيسة على يد الدولة التركية قد حال دونه، فكان الحل الوسط تحويله لحالة رمادية تفي بغرض إنهاء رمزية المكان الإسلامية وتظهر ارتباطه بالكنيسة ارتباطًا واضحًا، لكن دون إعادته لحالته التي سبقت الدولة العثمانية كما سيأتي توضيحه في ثنيات هذا المقال.
كيف بدأت الحكاية؟
قد يعتقد البعض أن أتاتورك ورفاقه ممن ألغوا الخلافة وأعلنوا الدولة العلمانية المتطرفة في علمانيتها قد اتخذوا هذا القرار في ليلة واحدة دون خوف أو وجل من ردات الفعل أو هبات الشعب الرافض لها، لكن الحقيقة والأحداث التاريخية تدل أنهم احتاجوا إلى حوالي خمس سنوات من التحضير والتدرج حتى وصلوا لهذا القرار، أو لنقُل أُوصلوا له، وأقول "أُوصلوا" لأن أول خطوة في هذا الاتجاه تمت بتاريخ 12 حزيران/ يونيو من عام 1929 حين أعلن رجل الأعمال والثري الأمريكي تشارلز كرين (Charles Richard Crane) مع سبعة من الأثرياء الأمريكان في فندق في شارع الاستقلال في إسطنبول، تأسيس المعهد البيزنطي المعني باستعادة وإحياء الآثار البيزنطية، ولم يكن كرين رجلًا متدينًا عاديًّا بل كان إحدى شخصيتين كلفهما الرئيس الأمريكي ويلسون عام 1919 بزيارة الشرق الأوسط للبحث وإعداد تقرير مفصل فيه توصياتهم بما عرف بتقرير لجنة كنج-كرين، وقال بعده كلمة عرفت عنه بعد ذلك: إن إسطنبول أخطر من أن تترك للأتراك وحدهم ويجب أن تدار عبر إدارة دولية من أجل السلام العالمي، علما بأن صاحب فكرة تأسيس هذا المعهد وقائد الفريق هو ثوماس وايتمور (Thomas Whittemore) وهو مسيحي من الطائفة الإنجيلية وحفيد أحد قادة هذه الطائفة ويحمل اسمه, وقد كان وايتمور يملك من العلاقات الإستراتيجية الكثير مع أمراء روسيا وأغنياء أمريكا وسياسيي إنجلترا وكان معروفًا عنه قدرته على جمع الأموال لدعم الجاليات المسيحية في مناطق الحروب أو إحياء الجاليات والتراث المسيحي في المناطق التي توشك هذه الجاليات على الذوبان في المجتمعات المحلية فيها.
ومن الأمور المثيرة للجدل هو قدرة المؤسسة التي أنشئت قبل عامين فقط والتي افتتحت مباشرة مقراتها في كل من إسطنبول وباريس وبوسطن على أخذ الإذن من حكومة أنقرة بتاريخ 7 حزيران من عام 1931، وبتوقيع الحكومة التركية بمن فيهم رئيس الجمهورية في حينه أتاتورك ورئيس وزرائه والرجل الثاني في الدولة عصمت إنونو بإعادة كشف كل الرسومات الفسيفسائية المغطاة بالطلاء أو أي مواد تغطيها في جامع آيا صوفيا ثم يتبين لاحقا أن جوزيف كرو Joseph Grew وهو أول سفير أمريكي في أنقره (1927-1932) ورئيس الوفد الأمريكي لمؤتمر باريس عام 1919 ومحادثات واتفاقية لوزان لعام 1923 كان صاحب الفضل في استصدار هذا الإذن حسب أرشيف المعهد البيزنطي الموجود في واشنطن. علما أن القرار لم يعلم به الأتراك إلا بعد شهرين من صدوره نقلًا عن صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية، ومنعا لردات الفعل ركز الخبر على أن الإذن اشترط الحفاظ على ماهية وحرمة المسجد رغم أن النص لم يحتوِ على ذلك، لكن المجموعة الفنية التي تنفذ الأمر راعت أن تبدأ في اللوحات الموجودة خارج صحن المسجد قبل الدخول فيه ولم تمنع الصلاة حتى يوم 25 أغسطس/ آب من عام 1934.
ومن المحطات المهمة والخطِرة على طريق تحويل المسجد إلى متحف كانت مراسم ليلة القدر في تاريخ 3 شباط/ فبراير من عام 1932 حيث حضر المراسم حوالي 40 ألف شخص، ودعي إليه السفراء والضيوف الأجانب ليتابعوها من الشرفات، وشارك 40 قارئًا من جميع أنحاء تركيا بتلاوة القرآن ثم الأذان والإقامة، ولكن هذه المرة كلها باللغة التركية وكانت تلك المرة الأولى التي يعلن فيها عن تتريك الأذان والقرآن بأمر من مصطفى كمال شخصيًّا.
حيث أمر وزير التعليم بتوجيهات لفظية من أتاتورك بالبدء بإجراءات تحويل المسجد إلى متحف (مباشرة بعد لقاء أتاتورك مع ثوماس وايتمور في أنقرة في إثر دعوته الشخصية للأخير لحضور مؤتمر التاريخ الأول في المدينة) وذكر الوزير في رسالة منه موجهة للحكومة، أنه بناء على التعليمات الشفهية التي تلقاها -والتي لم تكن سوى نقاش لوجهة نظر طرحها أتاتورك للنقاش في جلسة ببيته بعد لقاء وايتمور- أنه بدأ الإجراءات اللازمة لتحويل المسجد إلى متحف، وأعلم مديرية الأوقاف بتسليم عهدة الجامع لوزارة التعليم (التي كانت تشمل مهام وزارة الثقافة) الأمر الذي يعزوه البعض إلى أن التيار الغالب حول أتاتورك كان يشجعه على الاستعجال في تنفيذ المهمة رغم تمهله هو في ذلك.
وما إن أعلن رسميا عن القرار المتعلق بتحويل المسجد لمتحف حتى بدأت اللجان الفنية بنصب السقالات لبدء العمل في صحن المسجد حتى بدأت الأصوات المعترضة في المنصات الإعلامية ومنها تلك التي تسيطر عليها الدولة سيطرة كاملة، وكذلك ما تبقى من مجاميع ثقافية ودينية في البلاد فكان الموقف الحاد والصريح من الحكومة التي كشرت عن أنيابها.
وذهب مدير المتاحف السابق والبرلماني المقرب من أتاتورك خليل أدهم بي في زيارة للمسجد واصطحب معه وايتمور، وصرح أمام الصحفيين بأن تحريم الصور هو أمر مستحدث في الإسلام وبأن هذه الآثار لم تعد آثارًا دينية بل آثارًا قيِّمة تحمل ماهية علمية عالية، وأن العصر هو عصر الجمهورية ولم يكن القرار خاصًّا بجامع آيا صوفيا، لكن ضمن القرار نفسه، حسب الخبر الوارد في صحيفة أكشام الصادرة في تلك الأيام، تحويل جامع السلطان أحمد أو ما يعرف بالجامع الأزرق إلى مكتبة عامة. وكان من نص القرار ما يأتي: نظرًا لموقعه التاريخي والمبنى المعماري الفريد من نوعه فإن تحويل جامع آيا صوفيا إلى متحف سيدخل السرور على المشرق بأسره ويضيف للإنسانية مؤسسة علمية جديدة، وقد أمر القرار مديرية الأوقاف المسؤولة عن كل الأوقاف العثمانية بأن تتخلى عن وقفياتها التجارية التي ستهدم من أجل المشروع ودفع أثمان الأوقاف التجارية الخاصة من دخلها لعامين متتاليين.
دوافع القرار
بعيدا عن نقاش صحة أو زيف توقيع أتاتورك على القرار المتخذ، خاصة وأن الإجراءات السابقة واللاحقة للقرار لم تعطِ أي انطباع لدى المتابع أن أتاتورك الذي كان مسيطرًا على الدولة سيطرة كاملة أنه كان معارضا أو رافضا للإجراء، بل إنه بعد افتتاح المبنى كمتحف بتاريخ الثاني من شباط / فبراير من عام 1936 جاء لزيارة المتحف وتقدم نحو منطقة المحراب فأشار للوحات المخطوطة والمعلقة على أعمدة المسجد –وهي لفظ الجلالة واسم النبي محمد عليه الصلاة والسلام وأسماء الخلفاء الراشدين الأربعة كل اسم على عامود– قائلًا إن هذه اللوحات تغطي الجمال المعماري في المبنى وأمر برفعها ومشى حتى وصل المحراب، وأمر بإزالة الحاجز الموضوع أمام المحراب والسجاد المغطي للمكان قائلا: لا ضير في دوسه بالأحذية.
قد لا يتسع المقال للحديث عن كل الأسباب الداخلية والخارجية التي دفعت أو شجعت على اتخاذ القرار، لكن أوجز بعضها:
أولا: على الصعيد الداخلي
داخليًّا، أراد أتاتورك ورفاقه من الكماليين (نوع من العلمانية المتطرفة المعادي للدين الذي ينسب لمصطفى كمال أتاتورك)، عزل الشعب التركي عن تاريخه العثماني وماضيه القريب، وهذا يتضح من ردة فعل صديق أتاتورك بحق المعترضين على بدء كشف اللوحات في صحن المسجد كما ذكرت آنفا، وكذلك العديد من القرارات التي اتخذها أتاتورك وفريقه من فرض قانون القبعة أو ما يعرف بـ(البرنيطة الإنجليزية) الذي صدر تحت بند قانون الثورة (أي؛ قانون غير قابل للنقض أو التعديل) القانون الذي صدر ليمنع العلماء وطلبة العلم من لبس العمائم أو المثقفين من لبس الطربوش العثماني، أو قانون الحرف اللاتيني الذي قد يحتج أنصاره أنه كان لنشر التمدن والعلوم الغربية في البلاد إلا أن الكثيرين حتى من غير الإسلاميين يعتقدون أنه كان لقطع الطريق على كل من يفكر بالعودة للعثمانية حتى من باب الثقافة.
ومن الأسباب الداخلية التي تكون قد شجعت أتاتورك ورفاقه على هذا القرار أيضا، سعيهم لطمس الهوية الدينية للبلاد ونشر وتشجيع الثقافة الغربية، وقد تم بالفعل في تلك الفترة وبعدها –حتى عهد مندريس- محاربة العديد من المظاهر الدينية، مثل إغلاق الزوايا والتكايا الصوفية وبيع بعض المساجد والزوايا أو استخدامها لأغراض مدنية، ومنع الحجاب وتشجيع الفتيات على اللباس غير المحتشم.
ولم ينتهِ الأمر بتتريك الأذان والقرآن وهو الأخطر الأمر الذي أراده أتاتورك حسب شهادة رفيق دربه -الذي أوشك أن يعدمه أتاتورك لاحقًا- كاظم كرابكر، حيث قال في مذكراته إن أتاتورك رد عليه حين اعترض على تتريك القرآن قائلًا سأترجمه يا كرابكر ليعلم قومي معناه فيفهمون ما يخدعهم ابن العرب أو ما ذكر أتاتورك نفسه في رسالته لمؤسسة تدقيق التاريخ القومي حين قال: (إن العرب الذين يؤمنون بسفسطة (أي الكلام الفارغ) اقرأ باسم ربك، حرفوا التاريخ ودمروا كل الموروث الحضاري للشعب التركي الأصيل، وإنكم حين تكتبون التاريخ فيجب ألا تدرس قصة عمر وغلامه في القدس كأنها فضيلة ولا قصة العيش بخرقة وتمرة وكأنها فضيلة إنسانية...).
أما على الصعيد الخارجي فيمكن ذكر أهم الأسباب ومنها:
التقرب من الغرب من أجل المصالح السياسية للدولة التركية، وقد بدى ذلك واضحا من خلال التعاطي الكبير والإيجابي للغرب مع القرارات من بداية السماح بكشف الصور المغطاة إلى قرار تحويلها لمتحف، وقد توج الأمر باتفاقية البلقان بين تركيا واليونان ورومانيا ويوغوسلافيا التي تتبع كلها في غالبية سكانها للطائفة الأرثوذوكسية بعد أسبوع فقط من تحويل آيا صوفيا لمتحف.
لا يستبعد بعض المختصين أن يكون الأمر هو نتاج وعد وتعهد من أتاتورك بالأمر لدول التحالف خاصة، وأن السفير الأمريكي الطرف الأقوى حينها في التحالف أصبح هو المتابع الرئيس للملف مع أتاتورك حتى إن صحيفة نيويورك أعلنت لقرائها عن اقتراب دخول أول فرقة موسيقى الجاز لتعزف مقطوعاتها في صحن آيا صوفيا في أواسط عام 1927.
وأيضا لا يستبعد أن يكون هو نتاج توافق بين رغبات الطرفين وليس تعهدات أو وعود، لكنها أوصلت لنفس النتيجة وقد يستدل على ذلك بالسماح لثوماس وايتمان الخبير والثري الأمريكي المسيحي بالعمل على استعادة كل الآثار المسيحية والبيزنطية حتى التي حولها أهلها لمساجد نتيجة دخولهم الإسلام في حينه لتصبح متاحف في العديد من مدن الأناضول.
وأخيرا فإن قرار تحويل آيا صوفيا من جامع لمتحف هو قرار تاريخي لإعلان انتهاء حقبة وبداية أخرى، بالضبط كما كان قرار محمد الفاتح تحويلها لمسجد جامع بعد أن كانت مركز الدولة البيزنطية، وقطعا لم يكن قرارًا آنياًّ وليد لحظة ولكنه قرار اتخذ عبر تخطيط وتنفيذ استمر سنوات قليلة في العلن، وقد يكون أكثر من ذلك غير معلن ولا يبدو أن هدفه كان ثقافيًا فقط بل ارتبط بمواقف أيديولوجية ومصالح سياسية وعلاقات دولية تابعة لها في تلك الحقبة، وما قرار إعادته –على الرغم من فحواه الجماهيري والسياسي- إلا أنه على صعيد تركيا يعد مؤشرا على انتهاء حقبة السيطرة الكمالية المتطرفة على مقاليد الدولة وتراجع أثرها في سدة الحكم في تركيا والإعلان عن أن الدين لم يعد قابلًا ليكون مضطهدا في بلد 99% من سكانه من المسلمين.