فلسطين أون لاين

بين الحديد والنار.. مهنة "داود" تحفّها المخاطر

...
غزة-هدى الدلو

من داخل ورشته رذاذ من شرارة النيران المتطايرة للحام الحديد تفوح رائحة مختلطة مع برادة الحديد وصدئه، قد يبدو الشكل الخارجي للورشة وكأنه مكركب وفوضوي، ولكن صاحبها يحفظ عن ظهر قلب مكان أدواته التي يحتاجها في صناعة الحديد وتطويعه.

الحرفي الخمسيني منير الددة الذي انخرط في العمل في مجال الحدادة من بداية عمر الشباب، والذي عد هذه المهنة من المهن التقليدية التي عرفها الإنسان، حيث طوع الحديد لصالحه، مبينًا أهمية العمل في هذا المجال، بأن الحديد ذكر في القرآن، فهي مهنة الأنبياء، حيث كان النبي داود عليه السلام يعمل في مجال الحدادة.

ويقول في حديث مع صحيفة "فلسطين": إن الإنسان طوع الحدادة ليسهل عليه شئون الحياة، حيث صنع منه المحاريث والمناجل ليعمل في مجال الزراعة، وصنع منها الأدوات الحادة كالسيوف والسكاكين والدروع ليواجه بهم العدو، فالحدادة كان لها أثر في مختلف المهن.

ساعات طويلة يقضيها برفقة ابنه في هذه الورشة التي تعد من البيئات التي تشكل خطرًا على أصحابها، كون أن عملهم ينحصر بين الحديد والنار، حيث درجات الحرارة العالية، وبرادة الحديد، وبعض الآلات الخطرة التي يحتاجها في عمله.

ويوضح الددة أن التطور القائم أدى إلى ضعف الإقبال على هذه المهنة، بسبب ظهور المصانع الخاصة بالحديد، إلا أن البعض لا يزال يمتهن مهنة الحدادة رغم الصعوبات التي تواجههم بها، فهي من المهن القديمة التي يتم توارثها أبًا عن جد، واليوم يورثها إلى أبنائه رغم المشاكل التي تحيط بها.

ويتابع: "الجميل في حرفة الحدادة أن رأس مالها قليل، فيمكن أن تبدأ العمل بها في أدوات ومعدات رخيصة، ولكنها تحتاج إلى عقل كبير وواعي لأنها تعتمد عليه، إلى جانب استخدام بعض الآلات والماكينات"، لافتًا إلى أن في الماضي كان العمل في الحدادة بشكل يدوي ولكن التطور القائم سهل على الحرفيين الكثير.

تأثير الحرفة

وبعد أن قطع ابنه حديثنا بصوت طرقات الشاكوش على قطعة الحديد، يتابع الددة حديثه: "الجميل أيضًا أن خسائر هذه المهنة قليلة جدًا، كون المادة الخام حديد فيمكن أن إصلاح الأخطاء وتجاوزها بأقل الخسائر".

ويتحدث عن أهم خطوة لحرفي الحدادة، هو أخذ المقاسات الصحيحة، "وعليه التأكد منه مرة واثنين وثلاثة، فإذا أخذه بشكل صحيح أعطى نتائج لعمله دقيقة وبـ"الملي" دون أخطاء، وهذه الخطوة تعتبر ثلثين الشغل".

ويجلب المادة الخام من محلات التصنيع التي وفرت عليهم الكثير من الأعباء، وبعدها تجمع القطع وتضع التشكيلات والزخارف التي يختارها الزبون، لتدخل القطعة إلى مرحلة البرداخ والدهان.

ويصنع الحدادون من ذلك المعدن الصلب الأبواب وحديد الحماية الخاص بالنوافذ، والأدوات الحادة كالسكاكين، والبيوت في بعض الدول التي يكثر فيها الزلازل والبراكين، وغيرها.

أما بالنسبة للأدوات التي يحتاجها الحداد في ورشته، ففي الماضي كان يقتصر الأمر على المطرقة (الشاكوش)، والإزميل، وماكينة إلحام، وملاقط، حجر جلخ، ودسك قص، وغيرها.

وينتقل الددة للحديث عن تأثيرات هذه الحرفة على صاحبها من ناحية صحية، فأخذ يتفحص في يديه، قائلا: "لا يمكن لأي شخص أن يخرج منها صاغًا سليمًا، فقد يطرق اصبعه بالشاكوش، ولو نفذ منها سيقف له حجر الجلخ، أو شرارة الحديد التي ينتج عنها أشعة فوق بنفسجية تؤثر على العينين وإصابة بحساسية وجفاف وغيرها".

ويلفت إلى أن هذه الحرفة تسبب أمراض في الجهاز التنفسي، فالتعرض لدرجات حراة عالية، واستنشاق المواد المنبعثة كثاني أكسيد الكربون بكميات كبيرة تضر بالرئتين والقصبة الهوائية، وقد يصاب بتسلخات جلدية نتيجة التعرض لدرجات حرارة عالية.

لتفادي تلك الأضرار والمخاطر يجب على الحداد الأخذ بإجراءات السلامة والوقاية، ومنها التأني والهدوء في العمل، لكن قد يضطر الحداد إلى السرعة في انجاز العمل المطلوب لتجنب الخسائر المادية.

هذه الحرفة الصعبة والشاقة تليين الحديد تعلم صاحبها الصبر وقوة الإرادة، فكثرة الطرق على هذا المعدن الصلب حتى الوصول إلى الشكل المطلوب تعطي صاحبها نفسًا طويلًا حتى بلوغ مطلبه.