فلسطين أون لاين

هذه "طفولتي"

من جميل نعم الله على بني آدم أن يمتعه بالصحة، ومن مقتضيات الصحة ذاكرةٌ قويةٌ، يُخزنُ فيها أحداثًا وقعت منذ نعومه أظفاره حتى يصبح بلا أظافر، خاصة مرحلة الطفولة، سواء عاشها أم سمعها، وسواء لعب فيها دور البطولة المطلقة أم بالاشتراك مع، أم كان مجرد "كومبارس"، فيستدعيها بنسختها الأصلية كاملة المشاهد متى رغب، وتَسهُل عملية الاسترجاع إذا كان الأبطال كلهم أو جلهم أحياء، فينبشون الذاكرة، ويتحدثون عن الأحداث كأنها "بنت إمبارح"، لكن لو كانوا "في عداد الموتى"، فالمجال مفتوح لخيال الشاهد المتبقي.

جلستُ برفقة أصدقاء قبل مدة مع وزير الثقافة السابق الدكتور عطا الله أبو السبح، ولما أشرفت الزيارة على النهاية أهدى إلينا كتابًا، وقال: "هذه "طفولتي" شوفوها كيف وأعطوني رأيكم".

فرحتُ بذلك، قرأت "طفولتي"، وإليكم التفاصيل:

اختار الكاتب عنوان "طفولتي" دلالة على البراءة، مع أن طفولته مثل طفولتنا لم تكن على ما يرام بحكم القهر الذي اعترانا وما زلنا من الاحتلال.

تُصنف "طفولتي" ضمن السير الذاتية التي تجمع في جنباتها بين التاريخ والجغرافيا والسياسة والطقوس المجتمعية وأحداث عائلية وأُمنيات وتوقعات وأوجاع وأفراح وشقاوة عيال ومشاكسة أخوية وكيد النساء وقهر الرجال.

في "طفولتي" ألمٌ وأمٌل، وحزنٌ وفرحٌ، وغضبٌ وسكينةٌ، وثورةٌ وخيانةٌ، وحبٌّ وكراهية، وفيها شقاوة طلبة المدرسة وقسوة المعلمين وحنانهم، وفقر مدقع وملابس مرقعة بألف رقعةٍ كما هي حياتنا الآن.

وجدت في "طفولتي" صدقًا حيث حرص الكاتب على ذكر ما تذكره هو، وما عرفه من طريق آخرين (روت لي أمي، كذا قالت أمي، كما أخبروني بذلك بعد ذلك)، وفيها اعترافٌ واضحٌ أنه ذات يوم تسلق مع أقرانه شجرة الجميزة ليأكل ما استطاع من ثمارها، ويومها كسرت يده، وأنه فشل في الحصول على معدلٍ عالٍ في الثانوية العامة ليدخل كلية الطب، وفشله في تحدي "سعيد" الذي تفوق عليه في نطح الطابة "أم سبع جلود".

في "طفولتي" أصناف المعاناة حيث تحدث عن الطُعمة التي توزع الغداء على الطلبة، وكان لي نصيب منها في آخر أيامها، ثم عن ممرضة مسيحية اسمها "أم وحيد"، كان الجميع -ومنهم أنا- يعمل ألف حساب حين يضطر للعلاج وأخذ "حقنة"، كانت امرأة قوية و"بتخوف".

وجدتُ في "طفولتي" ولعًا فلسطينيًّا بالتعليم لكونه رأس المال الرابح، وأن عائلته لها علاقة قوية مع العلم والحفظ.

لم تخلُ "طفولتي" من قصص مشاكسات بين الإخوة على أبسط الأُمور، وخاصة أدوات المدرسة، ويذكرني بأولادي حين يحدث بينهم ذلك، والتنافس بين الأخوات في المهمات المنزلية.

في" طفولتي" عفويةٌ حين استخدم كلمات قريبة من واقع القارئ: "مسخسخة" و"خشمكي"، و"مسكتك"، وفيها تذمرٌ واضحٌ من قضايا اجتماعية كان لها سطوة كبيرة سلبية، مثل: "زواج البدل" و"ضرب النساء"، بعضها زال ملكه وبعضها زاد ملكه.

في "طفولتي" حديث عن خراريف ما قبل النوم، وهذا ذكرني بأولادي حين يطلبون مني أن أحكي لهم قصة بقولهم: "بابا احكيلنا دسة"، ونفسيًّا وعلميًّا في هذا خيرٌ كثير.

علمت من "طفولتي" سر تسمية كندا والبرازيل والقرية السويدية، إذ إنها كانت مقرًّا للقوات الدولية التي جاءت لفلسطين بعد حرب 67، وسُميت كل منطقة باسم الكتيبة التي عسكرت فيها.

في "طفولتي" حقدٌ واضحٌ على الاحتلال الذي سرق الأرض وقتل الإنسان ولا يزال، وحضور كبير للهم العربي حيث الوحدة المصرية السورية التي أسماها أُستاذه "الكماشة" التي ستحيط بكيان الاحتلال للانقضاض عليه.

فرحتُ لفرحه بقميصه الجديد، وحزنت لوفاة ابنة أخته الطفلة الصغيرة "نجاح".

ما سبق هو جزء مما وجدته في "طفولتي"، بقي لكم عندي أن أخبركم بأن من يقرأ "طفولتي" سيشعر أنه المقصود؛ فقد عبرت عن الجميع بلغة أحد أبطال مرحلة الطفولة، أنصحكم بقراءتها، إنها حقًّا رائعة.