تبدأ علاقتنا مع أنفسنا في فترة مبكِّرة جداً من حياتنا.. قد يكون ذلك في الأعوام الخمس الأولى.. الطريقة التي تربينا عليها في طفولتنا هي ما يرسم شكل تلك العلاقة. راجع الأحكام التي تسقطها دائماً على نفسك.. العبارات التي تكررها في ذاتك.. ماذا تقول عادة؟ كيف تفكر بنفسك وتنظر لها؟ هل أنت دائم الشعور بالذنب؟ هل لديك ثقة عالية بك.. إعجاب بقدراتك تقدير لإنجازاتك؟ هل ترى نفسك مثل خرقة مهلهلة، هشة تمتلئ بالعيوب والتشوهات؟ هل تخشى أن يرى الناس حقيقة ما في داخلك؟ هل تبذل كل طاقتك لتخفي صورتك الذاتية عن الأعين المتلصصة؟
راجع نفسك بصدق وشفافية، واعترف دون مواربة.. فأنت لا تعيش إلا مرة واحدة، فكيف تحب لهذا العمر أن يمرَّ بك؟
انتبه.. نحرص في غالبية الأوقات على أن نرتدي أقنعة.. ودائماً ما نجعلها جميلة، براقة، كما يحبها الناس تماماً.. حتى قناعاتنا.. نشكلها حسب أهوائهم وأمزجتهم، لعلنا ننال رضاهم. نبدد سعينا لنقنع الآخرين بأننا نستحق رضاهم.. ننحت في داخلنا صنماً، نشكِّله بحسب الصورة التي يحب الآخرين أن يروننا عليها.. ثم نبذل بعد ذلك جهوداً جبارة للحفاظ على هذا الصنم والإبقاء عليه..
ننكر ذاتنا، وننكر علينا رغباتنا.. حريٌ بنا أن نكون كما يريدون منا.. كما يتوقعون أن نكون.. علينا أن لا نخذلهم.. علينا أن نكون عند حسن ظنهم.
من الداخل نرى أنفسنا أرضاً جدباء شديدة الوعورة.. تمتلئ بالحفر والندوب والثقوب.. وقبل كل خطوة نخطوها، نرتعد خوفاً، نضطرب.. هل سنقع تلوها؟ هل ستكون خطوتنا الأخيرة؟ نتابع المسير، ولكن بتردد قاتل، خطوة إلى الأمام، وخطوات عدة إلى الخلف.. عيوننا تتجه إلى أقدامنا، وليس إلى الأفق الفسيح أمامنا.. فنحن نخشى.. نخشى أن نقع، نخاف أن يرى الآخرين كبواتنا.. وفي قرارة أنفسنا وقناعاتنا لا نعطي لنا الحق في أن نكبو.. نتعثَّر.. نسقط.
يتقاذفنا الإحساس السحيق بالذنب.. نعاني بصمت، نتألم، نبكي جروحنا الغائرة وحدنا دون رفيق يؤنس وحدتنا ويشدُّ أزرنا.. نخفق في التعبير عن ما يجول في أعماقنا وينهكنا، بل ونقلل من قدره.. نضم أنفسنا إلينا ونجترُّ آلامنا ووحدتنا ونكمل سيرنا بذات التردد وذات الانكسار والضعف..
كم ظلمنا أنفسنا، وظلمونا حين أُجبرنا أن نقول نعم لكل شيء.. كبرنا ونحن نعجز عن رفض شيء لا يعجبنا.. فآثار الصفعات ما تزال رطبة في أعماق الطفل في أعماقنا، وصدى عبارات التوبيخ والتقريع واللوم ما تزال تتردد في ذاكرتنا.. ترها طوَّعته، وشكَّلته كما يريد المحيطون تماماً.
فخرجنا للدنيا نعاني تراكمات قميئة لطفولة مجروحة بعمق منهوبة بلا رحمة قضمت كل الأوقات الحلوة والسذاجة والبساطة التي لا تعود..
ثم.. وبعد مضي الوقت، نكتشف أننا قد قصَّرنا في حق أنفسنا.. ونصطدم بحقيقة مفادها أننا كنا نحن الخاسر الأكبر في هذه اللعبة الخرقاء الرعناء، التي سلبت منا العمر وولت دون أن ندري.. نذرف دموعنا ونتمنى.. نتمنى لو تتتراجع الأيام قليلاً إلى الوراء.. أو تتاح لنا الفرصة مرة أخرى، فنصلح ما أفسدناه بإرادتنا وسوء تقديرنا لأنفسنا.
فهل كان حري بنا أن نكون دائماً على صواب؟ هل أنقص من قيمتنا أننا أخطأنا؟ هل قلل من قدرنا أننا بكينا أو خفنا أو أكلت الغيرة قلوبنا أو أطاح الغضب بعقولنا...؟ هل مطلوب منا أن يصدر عنا فقط كل ما هو إيجابي ومثالي طوال وإلا فإننا لا نصلح لهذه الحياة؟
هل نحن محض ملائكة.. أم بشر من نسل آدم يخطئون ويصيبون؟