فلسطين أون لاين

كورونا في الخليل؛ محاولة لفهم ما جرى

منذ نحو شهر تقريبا، تعيش محافظة الخليل كارثة تسارع تفشي فيروس كورونا، في المدينة وعدد من البلدات المحيطة، وهناك تزايد في أعداد الإصابات، ويومياً تسجل حالات وفاة بالفيروس بمعدل حالتين كل يوم، والعدد مرشح للزيادة في ظل موجة الانتشار التي بات من الصعب حصرها والسيطرة عليها.

تباينت وجهات النظر التي تحاول تفسير ما حدث، ووضع اليد على سببه الأساسي، أو المتسبب به، حكومة السلطة من جهتها حاولت ردّ الأمر إلى استهتار الجمهور في المحافظة، وموجة الأعراس التي أعقبت فتح الأسواق عقب فترة الحجر الأولى، إضافة إلى جميع أشكال التجمع كبيوت العزاء والحفلات وبقية المناسبات، لكن هذا التفسير ظل قاصراً عن إقناع الناس، نظراً لأن التجمعات والمناسبات الاجتماعية تستغرق جميع مناطق الضفة وليس فقط محافظة الخليل، وكذلك ما يتعلق بجوانب الاستهتار التي تبديها شريحة غير قليلة من المواطنين في إجراءات الوقاية المختلفة، فالمستهترون في كل مكان وليسوا حكراً على منطقة دون أخرى.

محافظة الخليل هي الأكبر بين محافظات الضفة الغربية من حيث المساحة وعدد السكان، فعدد سكانها يقترب من المليون، أي ثلث سكان الضفة الغربية تقريبا، وهي المحافظة الأولى من حيث عدد العمال الفلسطينيين في الداخل المحتل، وقريبة من تجمعات سكانية كبرى فيه، وهناك حركة نشاط تجاري كثيفة بينها وبين الداخل، تتعدد جوانبه وأشكاله.

في الفترة التي تلت عيد الفطر في أواخر أيار من هذا العام، عاد العمال بكثافة للعمل في الداخل المحتل، بعد أن كانت الإصابات بالفيروس في محافظة الخليل قليلة جدا، وتزامن هذا مع توافد آلاف من فلسطينيي الداخل إلى أسواق الخليل، وخاصة من مناطق النقب المحتل، وهي مناطق تشهد أصلاً ارتفاعاً في أعداد الإصابات، وفيها إصابات غير مسجلة، أي بقي الفيروس ينتشر لمدة أسبوعين قبل أن تنتبه دائرة الصحة لما يجري، وقبل أن تبدأ أعداد الإصابات بالظهور مع ظهور الأعراض، مع العلم أن عدداً كبيراً من المصابين لا تظهر عليهم أعراض أو تكون طفيفة، لكنهم ينقلون الفيروس لغيرهم، وكانت النتيجة أن أصيبت أعداد كبيرة بالفيروس في وقت قصير.

ومما فاقم المشكلة حالة الإنكار التي واجه بها الناس الأمر في البداية لأن الأعداد الكبيرة ظهرت فجأة وليس بالتدريج، إضافة إلى كون الأعداد الكبيرة للمفحوصين يومياً تؤدي إلى تأخر ظهور النتيجة لعدة أيام، وهو عامل ساهم في زيادة رقعة انتشار المرض، أما الاستهتار باتخاذ إجراءات الوقاية فهو موجود لكنه لا يخصّ منطقة دون أخرى، بل لعله قائم على مستوى العالم كله وليس فلسطين فقط، ذلك أن الإنسان بطبعه قلّ أن ينضبط ذاتياً بضوابط وقيود صارمة، ما لم تكن هناك متابعة وإلزام بسطوة القانون.

من جهة أخرى ظل تعامل السلطة مع ما يجري في الخليل بطيئاً ولا يناسب حدة الموجة، فهنالك نقص كبير في الكوادر الطبية من أطباء وممرضين في دوائر الصحة والمستشفيات، وخصوصاً تلك المخصصة لعلاج مرضى كورونا، إضافة إلى نقص المعدات والتجهيزات، ثم تلك الإشكالية الكبرى التي تتمثل بتأخر ظهور نتائج الفحوصات لعدة أيام. تلك المشاكل كان بالإمكان تجنبها، وكان من السهل حلّها لو كانت هناك إدارة ذكية ومسؤولة وجدية للأزمة في الخليل، ولا أظن أن السلطة كانت ستتعامل بهذا المستوى من البطء لو أن ما حلّ بالخليل كان في رام الله عاصمة السلطة، بل إن الاطلاع على تعامل الطب الوقائي مع الأزمة في رام الله يجعلنا نحسب أننا نتحدث عن دولة أخرى وليس محافظة أخرى تحت حكم المنظومة نفسها.

هذا لا يعني أن السلطة أو وزارة الصحة هي سبب انتشار المرض، كما تروج شريحة من عامة الناس، ولا أنها معنية بحدوث كارثة صحية في الخليل، فهذه كلها مبالغات منشؤها حالة الغضب والاحتقان في الشارع الخليلي وهو يجد نفسه عاجزاً عن تفسير ما يجري، لكن السلطة تتحمل مسؤولية التقصير في المتابعة، مثلما يتحمل الجمهور مسؤولية تلك القناعات المغلوطة لجزء منه، جعلته نهباً لشائعات عديدة ومتناقضة، ومسؤولية تقصيره في الوقاية أو الاعتقاد بجدية المرض.

ليس معروفاً متى ستخرج الخليل من هذه الأزمة، ولا إن كانت ستقتصر على الخليل أم ستتمدد لتطال كل محافظات الضفة، لكن هذا الانفتاح الواسع على الداخل المحتل سيفاقم المشكلة ما دام موجودا، وسيجعل الضفة الغربية محكومة بما يجري في الكيان الصهيوني من حيث الانخفاض أو الزيادة في أعداد الإصابات أو توقيت نهاية الفيروس، فمعدل الإصابات اليومية في الضفة بات يشكل نصف نظيرتها داخل الكيان بعد أن كان لا يتجاوز نصف العشر، لأن حالة التداخل مع الداخل المحتل عبر العمال ثم عبر زيارات فلسطينيي الداخل للضفة ستفضي تلقائياً مع الوقت إلى حال شبيه بحال الإصابات داخل الكيان.

ورغم كل ذلك، ثمة جهد كبير على السلطة بذله في مواجهة الفيروس، ابتداءً بتحسين وضع المنظومة الصحية، والإنفاق عليها بسخاء، بدل تهميشها لصالح المنظومة الأمنية، وانتهاءً بتحسين منسوب ثقة المواطن فيها، ذلك أن اعتناقه لنظرية تآمر السلطة عليه حتى في موضوع الفيروس لم يأت من فراغ، بل مما عاينه عبر سنوات طويلة من حكمها.