فلسطين أون لاين

500 عام تحافظ على نفسها "من الانقراض"

تقرير "العطارة" مهنة لا تقبل إلا وارثًا لعلمها أبًا عن جد

...
ممدوح زين الدين
غزة- يحيى اليعقوبي

يرفع هامته حجارة أثرية على شكل أقواس من العهد العثماني، تحت هذا السقف يحافظ أحد أقدم محلات العطارة في غزة على هويته وتراثه.

في الخارج، يغرس العطار ممدوح زين الدين يديه في صندوق الذرة مشكلًا هرمًا؛ حتى أصبح مظهر الصناديق الممتلئة بأصناف المنتجات من التمر والبهارات جذابًا للنظر، في الداخل على يمين المدخل رفوف تناطح سقف المحل المرتفع، عليها صناديق بلاستيكية مملوءة بأصناف عدة من الأعشاب والزيوت والبهارات.

"مهنة العطارة يجب أن تكون متوارثة أبًا عن جد، فلا يمكن العمل بها وأنت غير وارث، وهذا المحل ورثته مع أبناء عمي عن جدي (...) لقد تركت مهنتي في العمل الحكومي لأجل العطارة، والسبب عشقي للمهنة"، وهكذا ارتبط زين الدين بالمهنة وحقق شرط الوراثة فيها.

ينظر إلى سقف محله الذي تزوره بعض الشقوق، ثم يعلق: "هذا مكان أثري من العهد العثماني، مبني من الصخور، ويزيد عمره على 300-400 سنة".

يعرّفنا إلى صفات العطار: "أولًا الأمانة والصدق والرحمة، فضلًا أن التجارة بحاجة إلى فن، يجب أن يكون وارثًا ولديه خبرة وخلفية وعلم كاف بالأعشاب، فلا ينفع أن تكون عطارًا وأنت لا تفقه شيئًا بها، ويجب معرفة طرق تنمية الخبرة من الآباء وما ورثناه من علم، والتلفاز والإنترنت".

بعد أن يبيع أحد الزبائن، يكمل حديثه: "اليوم حينما يأتي زبون ويسأل عن عشبة ما، فرغبة منا في نصحه نسأله عن سبب طلبه لها، فقد يأخذ عشبة ليست للمرض ذاته أو قد تضره، فكثيرًا من الناس يأخذون معلوماتهم من الإنترنت وأحيانًا يحدث تداخل بالمعلومات إذ يكون الكلام عن الكتان، ويعتقد أنه عن الرشاد".

"يجب أن يعلم العطار خصائص الأعشاب واستخداماتها، ففيها الخطورة والعلاج، فمثلًا عندما نتحدث عن "السنمكي" ففيها الخطورة والمنفعة، وحينما نريد تحول العشبة إلى منفعة عندما يطلبها المواطن مادة خامًا ننصحه بأخذها مع عشبة أخرى" يختم حديثه.

"برزق" يصطحب "فلسطين" في جولة على مخزونه من "العطارة"

أمامك هنا حبات التمر واللوز وأصناف عدة تصطف واحدة فوق الأخرى على شكل هرم، بمظهر جذاب، حيث يمارس العطار نبيل برزق المهنة في محله الذي يبلغ عمره 120 عامًا؛ وفق قوله.

الشاب الذي يقف على مشارف نهاية الثلاثينات من عمره يجعلك تستبعد للوهلة الأولى أن يكون عطارًا إلا عندما تستمع إلى حديثه وتحاوره ليخرج لك ما يحمله من مخزون توارثه عن والده وجده في "العطارة"، إذ يقول: "العطارة مهنة كبير شأنها وعظيمة، فليس كل من وضع لافتة على محله أصبح عطارًا، لأن العطار بمنزلة طبيب يوجه الناس نحو الخير".

يستند إلى أحد الرفوف، ولا يزال يخوض في حبه للمهنة: "العطارة جميلة، ولكن يجب أن يكون العطار ملمًّا بالطب البديل والأعشاب، فلا يصح أن يبيع الأعشاب إلا الذي يتقنها ويعرف السبب والعلاج" يقول.

يعرفنا أكثر إلى أصناف محله، يبتسم: "النبي قال: "عليكم بالسنا والسنوت"، وكثير من الناس لا يعرفونهما".

علاج "القولون" .. ولـ"جمال الصوت"

يفصل أكثر: "السنا هو "السنمكي" ويعالج  أمراضًا كثيرة في تنظيف القولون والنفخة، والسنوت هو "الكمون" ويعالج أمراضًا خطيرة مثل القولون العصبي والبشرة والنمش والكلف والارتفاع الحمضي بالمعدة، وله أكثر من 40 فائدة، لكن يشترط أخذ الكمون حبًّا".

"هناك شيء بسيط بالسوق يعرف الناس شكله، وله مصطلح علمي من زمن الأنبياء، وكان طعام سيدنا عيسى وهو الزبيب" يقول بعدما فرد ابتسامة لم تفارقه خلال حديثه، ثم يضيف : "لو سألنا الناس عن المصطلح العلمي له ربما لا يعرف أحد"، يجيب بعد ابتسامة أخرى: "اسمه كلمة شائقة جدًّا (العنجد)، حتى إن علماء القرآن اكتشفوا أن جمال الصوت لا يكتمل إلا عندما نأكل الزبيب الذي يحتوي على حبيبات النوى".

يتابع: "في الممارسة اليومية تُعرض علينا مشاكل ونوجه الناس لطريق الخير، فلا يصح أن أبيع ديني بدنيا، لأن شعار العطار الصدق ورضا الله، فصاحب هذه المهنة بمنزلة دكتور يعرض عليه المرض وعليه إرشاد الناس للعلاج".

توجه له سؤالًا آخر: "على ماذا تتركز أسئلة الناس اليومية لكم؟، يجيب: "أكثرها على مدار السنة لمن يعانون القولون وما يسمى "النفخة، وكركعة البطن"، وهذا يرجع سببه لنوع الطعام، فهناك أطعمة تسبب النفخة والمشاكل الصحية، منها الفول والحمص والبازيلاء والبقوليات، أما "إرباك القولون" وما يصحبه من آلام فسببه الحزن".

يخبرنا برزق أن كثيرًا من الناس يشكون من جرثومة المعدة –وهذه مشكلة ليست في فلسطين فقط بل في دول العالم – وسببها قلة نظافة اليدين فينتقل من طريقهما الفيروس، وعلاجها بسيط "قشور الرمان": "نجففها ونعرضها للشمس ثم نطحنها (نطرقها) فنضع القشور المهروسة مع ملعقة عسل، فتعمل على التئام ما يسمى جرثومة المعدة".

مهنة العطارة قديمة عمرها في فلسطين أكثر من 500 عام، حافظت على نفسها من الانقراض، السبب وفقًا لحديث برزق: "أن أهل غزة يعتنون بطب الأعشاب منذ زمن، فمثلًا قبل 50 عامًا كانوا لا يذهبون إلى المشفى لإزالة "الدمل" الذي يحتاج لعملية جراحية، بل يأتون بـ"الكبريت الأصفر" الذي كان يرشونه على حب العنب حتى لا يصاب بالمن والحشرات، ويضعون عليه عصير نصف ليمونة ومعلقتي زيت زيتون ويقلبونها مثل مرهم ويضعون المزيج على الدمل ليختفي".

تبعًا لكلامه، تطورت العطارة، فقديمًا كان العطارون يأتون بالأعشاب من الهند والمغرب، ولكن الآن تقطعت الطرق بسبب الحصار، ولم يبق في السوق سوى أشياء بسيطة تأتي من مصر لا تسد الاحتياجات، كما أن هناك أعشابًا انقرضت من الأسواق.

الضعف الجنسي وعلاج العقم

يقابل نظره، عيدان خشبية ملتوية نوعًا ما، تسأله عن اسمها، فيجيبك بعدما أشار إليها: "هذا علاج من الطب النبوي اسمه "الخلنجان" أقوى معالج للضعف الجنسي يعمل على تنشيط الجسم كاملًا، وهو جذور من باطن الأرض لونه أبيض وبني، الأخير منشط عام، والأبيض يوضع على التوابل، لكن سبب الضعف الجنسي هو السكر، و"الخلنجان" أكبر جهاز تقوية للجسم والصحة، طريقة استخدامه نهرس عيدان الخلنجان ونضعها بكأس ماء ونشربها، ولا نشتري الخلنجان المطحون لأنه يفقد خواصه خلال 24 ساعة، ويسمى لدينا "خلنجان العقارب" وله فوائد عظيمة".

يتحدث برزق عن نوع آخر مرتبط بالحديث ذاته: "هناك "حب العزيز" أوصى به السلطان المعز، عندما رأى الشعب المصري هزيلًا إبان حكمه، بالعامية: "مش قادر يخلف ويتجوز"، فأمر بزراعة حب العزيز للمساعدة على الإنجاب، وهذا الحب يشبه الحمص ولونه أصفر وطعمه مثل العوامة، وهو معالج للعقم بالمداومة على أكل حبه".

المصدر / فلسطين أون لاين