رغم ظهور مقاربة التحليل الاستيطاني الاستعماري منذ منتصف القرن الماضي، فإن هذه المقاربة ما زالت تنطوي على بعض الفجوات النظرية، وأخرى عندما يتعلق بدراستها للمشروع الاستيطاني الاستعماري في فلسطين.
في هذه المداخلة سيتم التطرق لهذه الفجوات بإيجاز، وذلك في نطاق الإعداد لدراسة موسعة.
نظريًا، تتفاوت المقاربة الاستيطانية الاستعمارية بين ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول، يرى المشروع الاستيطاني الاستعماري "كبنية وليس كحدث " كما يطرح باتريك وولف، وتكمن قوة هذا الاتجاه في قدرته على تحليل وتفكيك البنية الاستيطانية الاستعمارية، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، وكشف المشترك بين سرديات المشاريع الاستيطانية الاستعمارية كعبء الرجل الأبيض والمتحضر مقابل الهمجي، وأطروحة الأرض الفارغة التي تبقى كذلك حتى لو قطنها أصليون "متخلفون" لا يقدرون على ملئها حتى "يفتحها" الرجل الأبيض المتسلح بالحداثة ويجلب لها الازدهار والتطور؛ وأخيرًا وليس آخرًا، الأطروحات الدينية سواء كانت أفنجليكانية أو توراتية حول استعادة الحق التاريخي في أرض يتم تصويرها على أنها أرض ميعاد، أو أرض عذراء موعودة.
يقارن هذا الاتجاه بين التجارب الاستيطانية الاستعمارية كاشفًا تشابهها في البنية والسردية، ومقوضًا لهذه السردية من داخل منظومتها ذاتها التي تنتمي لأفكار التفوق العرقي والحضاري، ومنها فكرة الانتخاب الطبيعي لهربرت سبنسر وما لحقها من أفكار تنتمي لما يطلق عليه اسم الداروينية الاجتماعية. في المقابل يجعل هذا الاتجاه المشروع الاستيطاني الاستعماري مشروعًا حتميًا لا يمكن رده مهما بلغت مقاومة الفاعلين من الشعب الأصلي، وذلك كما حدث في تجارب أمريكا وأستراليا وغيرها، حيث أبيد الشعب الأصلي.
ولكن يدحض هذا الاتجاه ما جاءت به تجارب الجزائر وزيمبابوي التي طردت المستوطنين بالمستعمرين، وتجربة إنهاء الاستيطان الصليبي في فلسطين بعد مئتي عام من "فتحه" لها، هذا ناهيك بتجربة إيرلندا التي حررت 26 من مقاطعاتها من بريطانيا عام 1922، وتجربة جنوب أفريقيا التي حولت الاستيطان الاستعماري الذي بدأ عام 1652 إلى نظام أبارتهايد من الفصل والحقوق غير المتساوية بين الشعب الأصلي وبين المستوطنين المستعمرين، بدءًا من عام 1910 كخطوة على طريق إزالته عام 1994.
الاتجاه الثاني يرى أن البنية الاستيطانية الاستعمارية تنتهي مع نجاح المشروع الاستيطاني الاستعماري بالتحول إلى دولة، ويرى هذا الاتجاه كما يدعي فيراسيني أنه ليس هناك ما يمكن تسميته بـ"دولة استيطانية استعمارية"؛ فعندما ينجح المشروع الاستيطاني الاستعماري في إقامة دولة فإنها تصبح دولة عادية، كما تبدأ بأصلنة المستوطنين المستعمرين ليصبحوا مواطنين شرعيين لهم حقوق وعليهم واجبات في الدولة الجديدة وفق القانون.
ينتمي هذا الاتجاه إلى الطرح السابق نفسه الذي يعتبر المشروع الاستيطاني الاستعماري بنية، ولكنه في المقابل يرى أن هذه البنية تنتهي مع إقامة الدولة وتأصلن المستوطنين في البلاد التي "فتحوها" بعد قيامهم بهزيمة الشعب الأصلي. وينطبق هذا الاتجاه على الحالات ذاتها التي جرى فيها إبادة الشعب الأصلي. هذا علمًا أنه حتى في هذه الحالات ما زال هناك مفكرون يرون وجود ما أطلقوا عليه اسم "الاستعمار الداخلي" كظاهرة موجودة حتى اليوم داخل الولايات المتحدة وأستراليا وكندا، وفي غيرها من البلدان التي انتصر فيها المشروع الاستيطاني الاستعماري.
وقد نشر موقع "عرب 48" مقالات لرامي منصور ولمفكرين أمريكان حول هذا المفهوم سابقا، كما كتب إيليا زريق عام 1979 كتابًا عن (إسرائيل) حلل فيها نظام سيطرتها على فلسطينيي الداخل على أنه نظام "استعمار داخلي". وقد عانى هذا الاتجاه الثاني من التخبط لدى محاولة تطبيقه على (إسرائيل)، ففي مقالة لفيراسيني نشرها في مجلة الدراسات الفلسطينية بالإنجليزية عام 2013، لا يجد المرء مبررات مقنعة من فيراسيني حول اعتبار (إسرائيل) بأنها دولة عادية، فهو ما زال يرفض هنا أيضًا وجود دولة استيطانية استعمارية، ولكنه في المقابل يصف حالها بعد عام 1967 على أنه احتلال عسكري وليس توسيعًا للمشروع الاستيطاني الاستعماري، ويرى بأن هذا الاحتلال قد خلق حالة فصل أبارتهايدي بعد اتفاقيات أوسلو، وبذلك أنهى برأيه حينذاك مشروعه الاستيطاني الاستعماري الذي فشل في أصلنة المستوطنين المستعمرين في الضفة.
وعلى نهج فيراسيني سار أكاديميون يساريون إسرائيليون مثل أورين يفتاحئيل ونيف غوردون، الذين رأوا أن مرحلة ما بعد أوسلو قد شهدت انكسار المشروع الاستيطاني الاستعماري الزاحف وتحوله إلى مشروع فصل وأبارتهايد، ينبئ بانحسار إمكانية حصول عملية طرد جديدة للفلسطينيين كما حصل عامي 1948 و1967، ويفتح الباب أمام الفلسطينيين للمطالبة بحقوق متساوية في دولة واحدة. توسع المشروع الاستيطاني الاستعماري المضطرد بعد أوسلو ووصوله إلى طرح "قانون القومية" عام 2018، الذي اعتبر كل فلسطين التاريخية على أنها "أرض إسرائيل" وكحق حصري "لشعب إسرائيل"، يظهر خطأ الاتجاه المذكور وأن نوايا الطرد إلى خارج البلاد ما زالت معششة في أذهان أوساط في الحركة الصهيونية، إضافة إلى الطرد الداخلي القائم والمستمر عبر ترحيل الفلسطينيين بشكل جماعي من مكان إلى آخر داخل البلاد.
قوة هذا الاتجاه أنه يرى وجود ظواهر فصل وأبارتهايد، ولكن ضعفه يكمن في أنه يرى هذه الظواهر كالشكل السائد بديلا للاستيطان الاستعماري المتوسع، ولا يراها بالتالي كظواهر مشمولة تحت الإطار الأعم، وهو إطار الاستيطان الاستعماري المتوسع. وبناءً على هذا الخطأ يستعجل هذا الاتجاه الشروع في الكفاح من أجل الحقوق المتساوية في دولة واحدة، وذلك قبل وقف المشروع الاستيطاني الاستعماري مما يضع العربة أمام الحصان.
الاتجاه الثالث لا يرى في المشروع الاستيطاني الاستعماري بنية حتمية النجاح لا حيلة للفاعلين من الشعب الأصلي تجاهها (الاتجاه الأول)، ولا كبنية لا يستطيع الشعب الأصلي التحكم بنتائجها، ولا يرى بديلا له سوى الانخراط فيها لتحقيق حقوقه في المساواة من داخلها (الاتجاه الثاني). يرى الاتجاه الثالث أن مآل المشروع الاستيطاني الاستعماري هو حاصل الصراع بين بنيته (التي تتضمن أيضا فاعليه) وبين الفاعلين من الشعب الأصلي وبنيتهم، كل ذلك مأخوذًا بديناميكية وليس كواقع إستاتيكي غير قابل للتغيير.
ومن منظور العلاقات الدولية يمكن إضافة تفاعل الفواعل المحلية للشعب الأصلي وللمستوطنين المستعمرين مع الفواعل الدولية، ومدى التغير الذي يحصل في دور ومواقف هذه الفواعل الدولية خلال فترة الصراع. لعب تفاعل دور هذه العوامل مع البنية، والتي انتبه إليها جيدنز مطلقًا عليها اسمstructuration دورًا في حسم حاصل الصراع مع المشاريع الاستيطانية الاستعمارية في الجزائر وزيمبابوي وجنوب أفريقيا وإيرلندا لصالح الشعب الأصلي، ولكن هذا التفاعل لم يصل إلى نتيجة مشابهة في فلسطين حتى الآن.
وما لا يزال يثير التفاؤل الإستراتيجي هو ثلاثة أمور؛ أولها أن الشعب الفلسطيني لم ينهزم وما زال متمتعًا بالصبر الإستراتيجي وعدم استعجال قطف الثمار، وما زال يقاوم بغض النظر عن الحجم والنتائج، كما ما زال يرفض مشاريع التصفية الإسرائيلية الأمريكية مجسدة بـ"صفقة القرن"؛ وثانيها، أن الرأي العام الشعبي في دول الغرب أصبح يتغير ولم يعد يصدق الادعاءات الإسرائيلية للتوسع بذرائع أمنية، ويبادر في حركات تضامن ومقاطعة وسحب استثمارات وغيرها؛ وثالثها، أن المشروع الاستيطاني الاستعماري قد بدء يشهد بعض الشروخ الداخلية، مثل انتشار الفساد على مستويات عدة وتبعاته، وتآكل قدرة الجيش على الردع، إضافة لتراجعاته ولو المؤقتة أمام الضغوط الخارجية.
في المقابل، لا يمكن تجاهل للعوامل الداعمة لـ(إسرائيل) كقوتها العسكرية وتوجه دول عربية للتطبيع معها، وعجز المواقف العربية والدولية القائمة على التنديد اللفظي بقرارات الضم من تغيير ولجم مسارها وهكذا... إلا أن المعركة ما زالت "كر وفر" ولم يُسلم الشعب الفلسطيني الراية.
يقتضي الاتجاه الثالث إدخال عنصر إضافي للمقاربة الاستيطانية الاستعمارية، وهو عنصر تفاعلات الشعب الأصلي مع المشروع الاستيطاني الاستعماري وطرق تكيفهم معه، وكذلك طرق مقاومتهم له وهو ما طرحه الباحث كاوانوي كيهاولاني عام 2016.
فلسطينيًا، كانت المقاربة الاستيطانية الاستعمارية لتقييم (إسرائيل) قائمة في أدبيات الفصائل الفلسطينية لدى نشوئها في ستينيات القرن الماضي، وانعكست في كتابات مفكرين شرحوا نظام الاستيطان الاستعماري في فلسطين كما فعل فايز صايغ عام 1965، ولكن اعتماد هذه المقاربة التحليلية قد تراجع لاحقًا، ليعود مجددًا إلى الواجهة في العقد الاخير مع التوسع المضطرد للمشروع الاستيطاني الاستعماري لالتهام ما تبقى من فلسطين، وهي عودة إيجابية ولكن خللها الرئيس ما زال في بحث غالبيتها في مواضيع جزئية، في حين بقي الإنتاج المطلوب لتطوير نظرية حول الدولة الاستيطانية الاستعمارية وبناها السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية والثقافية غائبًا، ما ولد فجوة كبيرة في المقاربة الاستيطانية الاستعمارية ذاتها، حيث نترك الإنتاج النظري للمفكرين الغربيين ونكتفي بالأبحاث الإمبريقية ودراسات الحالات معتمدين فيها على نظرياتهم الناقصة، وهو تقسيم عمل غير متكافئ ولا يجوز له أن يستمر. ولذلك سنتطرق في مقال آخر.