لم يكن الرابع من تموز، يوم الاستقلال الأمريكي، عيداً لمعظم الأمريكيين في هذه السنة. فمن جهة، فيروس كورونا الذي قتل حتى الآن أكثر من 130 ألف نسمة (ونحو 45 ألف مريض جديد في يوم الاستقلال)، ومن الجهة الأخرى، سلسلة طويلة من الفيروسات السياسية العنيفة من اليسار واليمين تزرع الدمار في النسيج الاجتماعي الأمريكي وقد تضعضع أساساتها السياسية والاقتصادية ومكانتها في العالم.
لقد كانت الولايات المتحدة دوماً دولة عنيفة، من يوم تأسيسها بل وقبل ذلك، وإلى جانب ذلك، بشكل مفعم بالمفارقة، بل وربما كنظرية مضادة، محدثة للتقدم والحركة والتنور الاجتماعي والديمقراطية وحقوق المواطن… التي شكلت نموذج اقتداء أو حسد لقسم كبير من العالم، وعدها آخرون تهديداً. يجري فيها اليوم صراع جبابرة بين هذين الميلين المتضاربين في طبيعتها القومية. ولن تكون الانتخابات القريبة القادمة بالنسبة لهما مؤشرًا لما سيأتي فحسب، بل وستكون جزءاً من الصراع نفسه أيضاً. المواجهة ليست على الخطوط الواضحة بين الديمقراطيين والجمهوريين، بل على طبيعة وجوهر هذين الحزبين.
يعتقد واحد من زملائي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن كان سألني رأيي، بأن ما يميز الديمقراطيين هو "انعدام الانسجام وثباتهم المميز"، بينما لدى الجمهوريين تتسع الصدوع بين مؤيدي ترامب الشعبويين والنواة المحافظة القديمة. ولكن ما له صلة بالأمر في هذه اللحظة على نحو خاص هو معركة إنزال الأيادي في الحزب الديمقراطي. صحيح أن جو بايدن ليس المرشح الأكثر إثارة للحماسة، ولكن مثلما في تلك النكتة عن ذلك الرجل الذي حين سئل عن سبب طلاقه زوجته وزواجه بأخرى بشعة، أجاب: "لأنها مختلفة"، فإن فرص نصره في الانتخابات على خلفية عدائه لترامب في أجزاء من الجمهور الأمريكي وما يعتبر فشلاً في مكافحة كورونا، هي في خط ارتفاع. ما لا يزال يعمل في صالح الرئيس هو التحسن في الوضع الاقتصادي، بما في ذلك انخفاض معدلات البطالة والازدهار في وول ستريت، وكذا رد الفعل الغريزي الغاضب في أوساط جماهيرية مختلفة على مظاهرات وزعرنات الشوارع في أعقاب مقتل مواطن إفروأمريكي وعلى المبادرات الفوضوية لإلغاء الشرطة، ولكن ليس واضحاً إذا كان هذا سيكفي ترامب دون أن يلوح انتصار واضح على كورونا.
إن استراتيجية الانتخابات الرئيسة لترامب، بالتداخل مع ملازمة "القانون والنظام"، تعدّ لصق شارة يسارية على بايدن كي تبعد عنه مصوتين محتملين من وسط الخريطة السياسية ممن ملوا شعبوية ترامب، ولكنها تصطدم بالمصاعب؛ إذ إن ماضيه السياسي يميزه كرجل وسط بوضوح. صحيح أنه تماثل علناً مع بعض من شعارات اليسار، بل وعين عضو الكونغرس الكسندريا اوكزيو – كورتيج اليسارية رئيسة مشتركة في إحدى اللجان المهمة لتصميم برنامج الحزب، ولكن محاولات ربطه بدعوات إلغاء الشرطة اصطدمت بالرفض التام. ثمة مراقبون يعتقدون بأن البادرات الطيبة التي قدمها بايدن لليسار كانت تكتيكية في أساسها واستهدفت رأب الصدع في الحزب، وثمة من يأملون بأن المجموعة التقدمية هي الأخرى تسعى أولاً وقبل كل شيء لتوحيد كل القوى قبيل الانتخابات وليس إلى ثورة أيديولوجية وسياسية. غير أن هذا الموقف المهدئ يتجاهل دوافع بعيدة المدى لدى من يبثون فيه النبرة وهدفهم إحداث ثورة وليس إصلاحات وتغييرات تدريجية. وليس صدفة أن رأى مراقبون سياسيون ورؤساء المعسكر اليساري نفسه في انتصار مرشحهم في الانتخابات التمهيدية في برونكس على عضو الكونغرس القديم إليوت آنجل جزءاً من معركة شاملة لاحتلال الحزب. ومع أن الأغلبية المعتدلة لا تزال مسيطرة (مؤشر آخر سيكون في انتخاب النائبة للرئاسة – من اليسار أم من الوسط)، ولكن عدم الاكتراث الزائد قد يكون في غير صالحها.
إن الطابع المناهض (لإسرائيل) من قبل معسكر اليسار، وفي بعضه اللاسامي، كان معروفاً من قبل أيضاً، ولكنه تجسد بقوة أكبر الأسبوع الماضي عندما وقعت اوكزيو كورتيج الأسبوع الماضي، إلى جانب السناتور بارني ساندرس، وأجنحة "جي ستريت" ومحافل أخرى مناهضة لإسرائيل، وأعضاء الكونغرس، على رسالة تدعو إلى وقف المساعدة الأمنية لإسرائيل إذا ما طبقت خططها للضم ولم تحترم، زعماً، "حقوق الإنسان" في المناطق. إن هدف هذه المجموعة هو بلورة سياسة مناهضة لإسرائيل على نحو ملموس إذا ما وعندما ينتصر الديمقراطيون. صحيح أنه لا يوجد في هذه المرحلة احتمال بأن ينجحوا وأن بايدن أعلن معارضته اشتراط المساعدة الأمنية لإسرائيل، ولكن مثل هذه المبادرات ستبقى.
17 أسبوعاً حتى الانتخابات وكل شيء لا يزال مفتوحاً. مراسل "معاريف" في الولايات المتحدة رون مفراغ، مقتنع بأن مصير ترامب محسوم، ولكن مراقبة إسرائيلية أخرى تعيش في الولايات المتحدة تقول: إن "كل من هو أبيض لن يدلي بصوته إلا لترامب". إسرائيل، في كل الأحوال، ملزمة بأن تكون جاهزة لكل احتمال. يجدر برئيس الوزراء أن يشكل، في أقرب وقت ممكن، مجموعة عمل من أفضل الخبراء في الساحة الأمريكية وفي البلاد وفي الولايات المتحدة، بما في ذلك رجال وزارة الخارجية في الماضي والحاضر، وسفيرنا التالي في واشنطن جلعاد أردان، وذلك ليقف في جبهة المعركة.