لحظات عزٍّ وبطولةٍ عاشها الجزائريون وهم يستقبلون رُفات أربعةٍ وعشرين من قادة ومقاتلي الثورة الجزائرية، فعلى مدار مئة واثنين وثلاثين عامًا من المجازر والمذابح والقتل والدمار والجرائم البشعة التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائريين الثورة الجزائرية لم تتوقف، وكان الشعب الجزائري يؤمن إيمانًا عميقًا لا لُبس فيه أن النصر حليفه لا محالة، فانتصار الشعوب على كل الاحتلالات لم يسقط من السماء كما المطر في فصل الشتاء، والنصر لا يناله المتقاعسون والكسالى والمتساقطون في منتصف الطريق وأصحاب الحلول مع المحتل المغتصب، وإنما كل الشعوب التي وقعت تحت الاحتلال -الشعب الجزائري نموذج- انتزعت حريتها بما قدمته من تضحيات كبيرة وقافلة من الشهداء لم تتوقف حتى آخر لحظة من وجود الاحتلال.
إنها الروح الوثابة والإرادة القوية التي قضت مضاجع المحتلين بكل أشكال المقاومة (المسلحة والشعبية والديبلوماسية) المرتبطة معًا ولا غنى للشعوب عنها جدلية ثلاثية لا انفصام بينها، حتى عندما كان يطالب المحتل بالتفاوض مع الثوار الذين أرهقوه لا يفاوضونه إلا تحت أزيز الرصاص، لقد انتصر شعب الجزائر واستطاع دحر الاحتلال الفرنسي الذي استمر احتلاله للجزائر مئة واثنين وثلاثين عامًا (١٨٣٠- ١٩٦٢م) من العذابات والآلام، وكان ينغص على الشعب الجزائري وأهالي الشهداء بسرقة جثامين الثوار وقادة المقاومة الذين يستشهدون في المعارك ويحملها إلى فرنسا حتى لا يتذكرهم الجزائريون وحتى لا تصبح قبورهم مزارات وعناوين لاشتعال الثورة من جديد، وبالرغم من ذلك لم تتوقف المقاومة والثورة من بعدهم، بل كانت دماؤهم وقودًا يُشعل ثورة الشعب من جديد، التي استمر لهيبها حتى نال الشعب الجزائري حريته ودحر الاستعمار الفرنسي، واحتفل الشعب الجزائري ومعه كل أمتنا حينها بأعراس الانتصار.
ويأتي استقبال رُفات الشهداء ليمثل نصرًا جديدًا لأرواح الشهداء وعرسًا وطنيًّا جزائريًّا وفاء لمن قدموا أرواحهم من أجل حرية شعبهم وأرضهم، ولأن التجربة واحدة فرح الفلسطينيون بانتصار الجزائريين ونيلهم الحرية عام ١٩٦٢م، واليوم يفرح الفلسطينيون من جديد مع إخوانهم الجزائريين باستقبال رُفات شهداءهم الذين اضطرت فرنسا إلى إعادتهم حتى يدفنوا في أرض الجزائر، وقد اعتقد الفرنسيون أن ذلك قد يُنسي الجزائريين قليلًا من تاريخ فرنسا الأسود في الجزائر.
إنها الجريمة نفسها يمارسها العدو الصهيوني على الفلسطينيين بسرقة جثامين الشهداء الذين يرتقون في معارك البطولة والشرف، محاولًا التنغيص على عائلاتهم الذين ينتظرون الاحتفال بتوديعهم في أعراس الشهادة، وكسر إرادة الشعب الفلسطيني لوقف المقاومة، لكن الرابط العقدي والروحاني والعروبي والقومي بين الشعب الفلسطيني والشعب الجزائري يؤكد أن مقاومة شعبنا مستمرة ولن تتوقف أبدًا حتى تحقيق العودة والحرية والاحتفال بالنصر الكبير باستحضار أرواح شهدائه، خصوصًا أولئك الذين لا يزال يحتجزهم في مقابر "الأرقام"، ويعتقد أن الشعب الفلسطيني سوف ينسى ويتغاضى، وما علم أن دماء الشهداء تنتفض في شرايين شعبنا حتى يُشعل المقاومة من جديد، وأن الذي يتناسى سنّة التاريخ هو الاحتلال الصهيوني بجبروته (آخر الاحتلالات في التاريخ الحاضر) الذي لم يتعلم الدرس من الاحتلال الفرنسي في الجزائر وكل الاحتلالات التي سبقته بأنه إلى زوال، بل ما يزيد ثقتنا بأن النصر قادم لا محالة هو الوعد الإلهي الذي أكده القرآن الكريم "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا" (صدق الله العظيم).