فلسطين أون لاين

د. رمضان: الداعية والمفكر والسياسي (1)

وددتُ الكتابة عن الدكتور رمضان عبد الله شلح منذ اللحظات الأولى من وفاته، ولكنِّي تأنيت حتى تستجمع ذاكرتي ما عرفته عنه وحتى أضع الأمور في نصابها وأوفيه بعض حقه.. الفاجعة كبيرة والخسارة أكبر.. وفي لقاءات إعلامية متعددة تناولت بعض الجوانب في شخصية الدكتور رمضان كما عرفته.. وقد امتلك الدكتور رمضان -رحمه الله- والذي عرفناه منذ أربعين عامًا، شخصية عصامية التكوين، متكاملة الأبعاد، متشابكة المهمات، وقوية الحضور.. إنه الأستاذ الجامعي الذي لم تُسجِّل عليه الـFBI (مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي) حتى ولا مخالفة سيارة طوال سنوات وجوده في أمريكا (كما أوردت الصحف العالمية عندما أُعلن عن توليه قيادة الحركة حينها).. وهو نفسه الذي تزعم حركة فلسطينية سياسية مقاتلة كبيرة لها حضورها المجتمعي والفكري والسياسي والعسكري وتخوض صراعًا وجوديًّا مع الاحتلال الصهيوني.. وأدار العمل العسكري داخل فلسطين ضد العدو الصهيوني بامتياز من خلال كم العمليات البطولية التي خاضها مجاهدو سرايا القدس خلال الأعوام العشرين التي قاد فيها الدكتور رمضان حركة الجهاد الإسلامي والذي تضاعفت قوة الحركة في عهده أضعافًا كثيرة.. وأيضًا الشخصية التي تمتلك الكاريزما والهيبة والإطلالة القوية والمؤثرة وقوة الأداء في كل المحافل التي كان حاضرًا فيها من مؤتمرات وندوات ومحاضرات ولقاءات على وسائل الإعلام، أما في الجلسات الخاصة مع الأقارب والأصدقاء والزائرين من غزة فتنطلق النكات ويستحضر ذكريات الشجاعية وعائلاتها وأزقتها وشوارعها ويتحدث بلهجتها.. رحل القائد الكبير جسدًا وبقي إرثه وعطاؤه وأثره وروحه.

هكذا عرفناه، وما يهمني أنه جمع ثلاث صفات يمتلكها ويتميز بها كأهم رموز وقادة "الحركة الإسلامية المعاصرة".

أولًا- الداعية والخطيب: قرأ القرآن وعلومه والسنة والسيرة النبوية والعلوم الشرعية وكان خطيبًا مفوهًا وواعظًا تميز بطريقة الإلقاء القوية وبقدرته على الربط بين ما تلقاه من علم شرعي وفقهي وما حصَّله من موضوعات فكرية خلال اعتماده الدراسة الذاتية والدراسة الجمعية منذ صغره، فقد كان للوقت عنده قيمة كبيرة للاستزادة في القراءة والتعلم إلى أن تعرف إلى الدكتور فتحي والشباب الفلسطيني المسلم الذين صقلتهم الدراسة الجامعية بمزيد من الاطلاع والمعرفة.. واستطاعوا أن يبلوروا حينها فكرة تشكيل تنظيم إسلامي باسم (الطلائع الإسلامية) والذي تغير بعد عودة الإخوة إلى فلسطين وعُرف باسم (الجهاد الإسلامي) وبدؤوا في وضع مناهج للأسر تعتمد في الأساس على تعلّم القرآن والسنة النبوية والسيرة والفقه والآداب والرقائق.. استطاع حينها الدكتور رمضان أن يتحصّل على كم كبير من العلوم الشرعية والقضايا الفقهية والحركية التي تدارسها الجيل الأول في الحركة في أُسَرٍ حركية خاصة تم تشكيلها منذ البدايات ومن ثَمّ أصبحوا أمراء للأسر التي شُكّلت فيما بعد.. هذا كله إضافة إلى الموهبة الخطابية التي امتلكها والتي أهَّلته ليكون واعظًا وخطيبًا يتقدم ليخطب في الناس خطب الجمعة والدروس الدينية بعد الصلوات الخمس المفروضة في مساجد غزة الاصلاح، الرحمن، بن عثمان، عنان (حسن البنا) وغيرها من مساجد القطاع وقد كان عدد خطباء الحركة حينها يُعدون على أصابع اليد.. وهو في العشرينيات من عمره يمتلك همة وإبداع الشباب المتعلم والمثقف والمتدين، طالب بإحياء السنة النبوية بأن تكون صلاة العيدين في العراء وتقدم بنفسه ليخطب في الناس في منطقة الشجاعية ومن ثم انتقلت إلى باقي مناطق قطاع غزة من رفح حتى بيت حانون ولا تزال منذ ذلك الحين تؤدى في العراء.. وإحياء هذه السنة تُحسب لحركة الجهاد الإسلامي التي لم تُرهبها مخابرات الحكم العسكري الصهيوني التي كانت تلاحق تحركات رموزها وكوادرها حينها وإرسال الاستدعاءات وتنفيذ الاعتقالات ضدهم، وأحيانًا مهاجمة المصلين ومحاولات لإفشال أداء صلاة العيدين في العراء التي أبدع فيها خطباء الجهاد الإسلامي حينها، ولم تكن الخطب التي يؤديها الدكتور رمضان وغيره من خطباء الجهاد تقليدية أو تُلقى على المصلين عن ورقة مصفرة -التي يعتمدها "الشيخ المعمم" كما جرت العادة- ولكنها أتت بشيء جديد وبشكل مُبدع وموضوعات فكرية وسياسية لم يتعودها المصلون، وتميزت خطبهم حول الإسلام كعقيدة وشريعة ونظام حياة وسلوك وأخلاق وقيم، وسياسة وتحرير وثورة، والربط بين الإسلام وفلسطين والجهاد.. وكذلك الربط بين الإسلام وقضايا الأمة المعاصرة، وأهمية أداء العبادات في حياة المسلم التي تبدأ بتطهير النفس من عوالق الدنيا والمعاصي والآثام والعمل من أجل الآخرة، ومن ثم نصرة المستضعفين والوقوف في وجه الطغاة والمستبدين وتحرير الأرض من الصهاينة الغاصبين، والحديث عن القضية الفلسطينية بأبعادها العقائدية والتاريخية والواقعية، وكان يتميز د. رمضان بخطبه الحماسية المؤثرة، وقد تميز أيضًا حينما كان يتقدم خطيبًا في باحات المسجد الأقصى في وجود الدكتور فتحي رحمه الله وقيادة وكوادر الحركة من قطاع غزة والضفة وكل أنحاء فلسطين، وقد كانت الحركة حينها تُجيِّش الجماهير عبر باصات تنقلهم إلى المسجد الأقصى للاعتكاف في الليالي العشر الأواخر من رمضان وإحياء ليلة القدر هناك، وكان يغص المسجد الأقصى بعشرات آلاف المصلين من كل أنحاء فلسطين ويكون التحشيد أكثر فأكثر في الجمعة الأخيرة (اليتيمة) من رمضان وقد أطلق عليها الإمام الخميني في بدايات انتصار الثورة الإيرانية (يوم القدس العالمي)، وقد كان مُلْهِمًا بثورته للحركات الإسلامية وشبابها في العالم كله.. أذكر حينها كيف كان يتألق الدكتور رمضان عندما يقف خطيبًا على مصطبة صبرا وشاتيلا والتي كانت حديثة البناء (أقامها المقدسيون تخليدًا لشهداء مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها شارون بمساعدة الكتائب المارونية اللبنانية ضد الفلسطينيين في مخيم صبرا وشاتيلا بعد خروج قوات منظمة التحرير من لبنان في عام 17/9/1982 واستشهد فيها 3500 شهيد من الفلسطينيين واللبنانيين المدنيين الأطفال والنساء وكبار السن)، وتُعد مساحة المصطبة أكبر من غيرها من المصاطب ويلتف جماهير المصلين -القادمين من كل مناطق فلسطين- حول الدكتور رمضان ليخطب فيهم عن القضية الفلسطينية وعن القدس والمشروع الجهادى الثوري والوحدة الفلسطينية.

كان الدكتور رمضان حينها من الخطباء والوعّاظ القلائل في حركة الجهاد الوليدة في ذلك الوقت (بداية الثمانينات) وكان له دور بارز في نشر أفكار الحركة من خلال الخطب والدروس والمواعظ التي كان يلقيها أينما حلَّ بأرض فلسطين.. كان متميزًا بما يمتلكه من موهبة الخطابة وذلك الربط بين الإسلام وواقع المسلمين والعمق الفكري المؤثر والمقنع والجاذب لمن يستمع إليه، واللغة العربية الفصيحة يلقيها بصوت جهوري وهذه الملكات الخطابية لا يمتلكها الكثيرون.. تميزت خطبه حينئذ في مواضيعها الجديدة والمبدعة والبعيدة عن المواضيع الروتينية التي كان يرددها على الناس المشايخ الموظفون لدى الأوقاف التي يوجهها الحاكم العسكري الصهيوني حينئذ. ولم تغِب القضية الفلسطينية عن مواضيع خطبه كقضية مركزية للأمة العربية والإسلامية ووجوب الجهاد على كل مسلم ومسلمة من أجل تحريرها بكل الإمكانات المتاحة مهما كانت قليلة ومتواضعة عملًا بالقاعدة الشرعية "الواجب فوق الإمكان".