في لقاء الصحفي الشهير بقناة الجزيرة أحمد منصور مع مهاتير محمد مؤسس نهضة ماليزيا الحديثة، سأل أحمد منصور مهاتير محمد السؤال التالي:
أهم سبب لنهضة ماليزيا الحديثة هل هو التعليم أم الصناعات الثقيلة أم الاقتصاد؟ فكان الجواب الواثق من مهاتير محمد أن سيادة القانون هي أساس نهضة ماليزيا الحديثة.
ربما يتساءل سائل: وما علاقة سيادة القانون بالنهضة الاقتصادية؟
والجواب أن سيادة القانون هي أساس أي حضارة إنسانية ممكن أن تحدث على وجه الأرض.
لقد قصد مهاتير محمد بسيادة القانون القضاء على النعرات العرقية والإثنية التي كانت تتحكم في ماليزيا وكانت عنوانًا للفساد، وأشعر المواطن الماليزي بأنه صاحب حق في وطنه مثله مثل أي مواطن آخر من أي عرقية أخرى، وأنه صاحب صوت مؤثر، وأنه متساو في الحقوق والواجبات بالمواطن الآخر، ولا فضل لمواطن على مواطن آخر إلا بما يقدم للوطن من تضحيات وعمل وواجب، لقد أدركت الحكومة الماليزية مدى خطورة وجود الفساد في الدولة، الذي يُمثّل مصدرًا للظلم في العديد من الدول الذي يشعر به الناس في حياتهم اليوميّة؛ لذلك سعت ماليزيا بجدّية للقضاء على كل أشكال الفساد، ذلك بإطلاق العديد من الإجراءات الفعّالة، مثل إنشاء المركز الوطني لنزاهة الحوكمة ومكافحة الفساد، وتعزيز قدرات الرقابة، وإزالة تضارب المصالح، ولذلك اتجه الجميع للعمل من أجل الوطن، ولم يضيعوا وقتهم في المناكفات القائمة على العرقية المقيتة، التي لا يمكن إذا ما بدأت أن تنتهي، وواهم من يظن أن الوطن ممكن أن يصفو لفريق دون فريق، وواهم من يظن أن الوطن ممكن أن يتقدم بقهر مجموعة من المواطنين لمجموعة أخرى، بدعوى أن المجموعة الأولى هي الأحرص على مصالح الوطن العليا وهي الأعلم بها.
لذلك قضى مهاتير محمد على أسباب التفرقة الداخلية ووحد الجميع تحت راية الوطن، وبذلك استخلص من كل المواطنين أجمل ما فيهم وقدمه للوطن، وأصبح المواطن يقدم كل ما لديه من أجل وطنه الذي شعر أنه يعيش فيه بأمان، وأنه مستقبل أولاده من بعده، وأنه كلما أعطى الوطن أعطاه، وكلما ضحى من أجل الوطن وجد مقابل تضحيته احترامًا وتقديرًا، لذلك وجد أحد الباحثين أن الفضل في هذه النهضة يعود إلى اهتمام السلطة بالمواطن قبل كل شيء، إذ أدى هذه الاهتمام إلى تبادل مشاعر الاحترام مع السلطة، فغالبًا ما تشرك الحكومة المواطنين في النقاش في القضايا الاقتصادية عبر المجالس التي خصصت لذلك، ولهذا إن المواطن الماليزي يشعر دائما بأنه هو المستهدف من عملية التنمية، وأن نهضة بلاده تقوم عليه فردًا قبل كل شيء، فعندما سأل أحد الاقتصاديين العرب عاملًا ماليزيًّا بسيطًا عن سر المعجزة التي حققتها بلاده، أجاب ببساطة: "لقد طُلب منا العمل ثماني ساعات في اليوم، فعملنا ساعتين إضافيتين كل يوم حبًّا للوطن"، ولا ننسى أن هذه الساعات الإضافية كانت تطوعية، وما كان هؤلاء العمال ليقدِموا على اقتطاعها من أوقات راحتهم إلا لإيمانهم بأنها ستأتي بالخير على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وهذه هي الوصفة السحرية لتطور ورقي أي أمة.
إن سيادة القانون تعني القضاء على أخبث وسيلة لتخلف الشعوب وتدميرها ذاتيًّا، إنها التمييز بين المواطنين لأي سبب كان، التمييز سياسيًّا بادعاء حزب أو جماعة أنها الأحرص والأقدر على صون مصالح الوطن، أو ادعاء عرقية أو إثنية أو مذهب أنه صاحب الحق الحصري بمعرفة مسالك ودروب الحفاظ على مصالح الوطن، لتبدأ بعد ذلك عجلة التنافر والفرقة بالدوران، التي ستؤدي بدورها للجهل والتخلف والتراجع بكل أشكاله، اقتصاديًّا أو علميًّا أو اجتماعيًّا، ولن تتوقف حتى تترك بقايا وطن مهشم تتقاذفه مصالح الدول، التي ستجد من يفتح لها الطريق للتدخل فيه ظانًّا أنها ستكون له سندًا وعونًا ضد الخصوم من أبناء شعبه، وما درى أن الذئب إذا دخل إلى الحظيرة فلن يتورع عن الفتك بكل ما فيها.
إن الأوطان لا يصونها إلا أبناؤها، الذين عليهم أن يفهموا أن الوطن للجميع ليس لفريق دون فريق، وعليهم أن يفهموا أن أنهم جميعًا لهم الحق فيه دون تمييز، ولا يظنن أحد أنه يمتلك ما لا يمتلكه الآخرون، ولا يفتن أحد بتضحياته أو علمه أو خبرته، فإنك وما تملك من خبرة وتضحية وعمل للوطن، وليس لك فضل إلا بما تقدمه، ولك بالمقابل حق الاحترام وليس لك حق الاحتكار، وليس لأحد أن يتصرف بمنطق الراعي الأبوي للمسيرة، فكل ما عليك هو أن تقدم ما تقدر عليه وتمضي، ليأتي بعدك من يقدم ما لديه، وليس لك أن تستحوذ على المنصب أو النفوذ أو الصلاحيات، فهي ملك للمواطنين كافة تتسلمها مدة من الزمن ثم تسلمها، ولا تدعي أنك تخاف ألا يرعاها حق رعايتها من يأتي بعدك، بل اتركها فقط واذهب في سبيلك، وسنجد ألف ألف قائد يأتي من بعدك ليقود ويدير ثم يمضون أيضًا، فلم يبدأ التاريخ من عندك أو من عند غيرك، فأنت ليس إلا حلقة في سلسلة لا متناهية بدأت يوم خلق الله الأرض ومن عليها، وستنتهي بقدر الله وإرادته، فاعرف مقامك وقف عند حدود بشريتك ولا تتطاول على سنن الكون ونواميسه، فما تطاول عليها أحد إلا وجر على شعبه ووطنه الويلات والدمار.