فلسطين أون لاين

أَيُهُمُ المُتَوَحِشُ؟

لا يعرف من أين أتى أو كيف.. ذلك لا يهم.. ففي حياة الغاب تقف الحاجات الحيوانية على رأس أولويات الحياة اليومية. يكفيه أنه يعرف كيف يوفر لنفسه وبشكل يومي الطعام، حيوانيًا كان أو نباتيًا.. لا فرق، المهم ألَّا يمضي يومًا يقع فيه فريسة للجوع يقرض أحشاءه.. ويعلم أيضًا أن يجد ما يستر عري جسده.. يدفئه عندما تسكب السماء بردها وماءها، ويحميه من لظاها حين تسوطه بأشعة الكتلة النارية التي تلتهب في جوفها، والتي أصبح من المسلَّمات لديه أن هذه الكتلة الملتهبة تستيقظ في الصباح فتعتلي قبة السماء، وتسكن وتنام في الليل.. مثله تمامًا ومثل بقية سكان الغاب على هذه الجزيرة النائية العزيزة على قلبه. كما يعلم أن يوفر لنفسه مأوى في كهف أو بطن شجرة يضمه عندما يحلَّ الظلام، فيزيح عن نفسه عناء النهار المنصرم، ويحتمي من الأعداء.

لاحظ منذ أمد بعيد أنه يفتقد للأنياب الحادة التي تمتلكها الحيوانات وتصطاد بها.. فصنع لنفسه نابًا من حجرٍ مدبب، ثبَّته على عصا قطعها من غصن شجرة متين. دافع بها عن نفسه واصطاد طعامه ناهيك بمآرب أخرى.

حفظ ما حوله من أصوات وروائح حتى أصبح يميز كل ما يدور حوله عبر تغيُّرها وتبدُّلها؛ ما مكَّنه من الاستعداد جيدًا لكل المفاجآت الموشكة. حديثه الذاتي تمحور طوال الوقت حول أبجديات الحياة وتحدياتها، التي كان قادرًا على معاركتها والخروج منها بسلام في كل مرة.

ذات أصيل وقف أمام البحر الكبير.. غمس قدميه في الماء، وشرع يرقب الأفق.. كانت النوارس تنعق حوله بحدة، تصوَّر لو أنه امتلك أجنحة مثلها.. وأخذ يتصور في مخيلته أين كان سيحلق، وإلى أين يمكنه أن يصل.. أطبقت الحيرة على روحه، وسأل نفسه: "ماذا يوجد خلف هذا الماء؟ هل هناك نهاية له؟"، طاف وطاف بخياله، ولكنه سرعان ما ارتد إلى واقعه عندما لسعه برد المساء.. وتذكر أن عليه أن يعود إلى وكره قبل اشتداد الظلمة.

ذات ليلة دافئة أضاء بدرُها السماء، كان الغاب وأهله يغرقون في سبات عميق، دوت في الجزيرة جلبة غريبة لم يألفها، صرخات.. قهقهات.. همهمات.. لا تشبه أيًّا من الأصوات التي يعرفها، انفعل واضطرب وسيطرت مشاعر مختلطة على نفسه وتساءل في داخله قائلًا: "ما هذا؟ هل من مخلوق جديد لم أرَه من قبل أتى يدب هنا لم أكن أعلم عن وجوده شيئًا؟ من أين أتى؟ وأين كان مختبئًا؟".

على غير عادته، غادر كهفه في جوف الليل، بعد أن أيقظه الفضول وجذبه ليستجلي حقيقة روائح غريبة أزكمت أنفَهُ.. لم تلتقطها حواسُه من ذي قبل، لم يتمكن أن يخمن ماهيتها. جاب المنطقة على ضوء القمر بخطوات متوجسة يقظة.. شاهد بأم عينيه كائنات تشبهه، تمشي على قدمين منتصبة القامة، جلودهم بهتة، وشعورهم صفراء، ويتحدثون بطريقة لم تعهدها أذنيه قبلًا، وعلى أكتافهم تتدلى عصي غريبة الشكل، ويتعاونون على حمل أشياء كبيرة الحجم مشبَّكة تشبه الصناديق.

تسلق شجرة باسقة بحذر.. من بين أغصانها أمضى ليله مستطلعًا متسائلًا عمَّا يجري.. جال في خلده أنهم قد وفدوا إلى الجزيرة من جهة الشاطئ.. لم يشعر ناحيتهم بالود؛ فجرأتهم في اقتحام المكان سلبت الطمأنينة من نفسه.

على حين غرة، صداع عنيف شرع ينقر رأسه، ثم وهنت قواه، تبع ذلك غثيان أشعره بدوار عنيف، قبل أن تعمى حواسه عن استقبال أي مثير خارجي، والإصابة بشيء يشبه الإغماء، لم يعهده من قبل، غرق بعدها في سديم تلاه سواد عميق.. شيء يهزه بعنف ويلح عليه أن يفتح عينيه.. بينما عقله يكافح ذلك بقوة.. وتحت الضغط والإلحاح، فتح عينيه.. في البداية كان كل شيء مغبشًا، ثم بدأت الرؤية تتضح بعدها.. نظر حوله.. لم يفهم أي شيء!

وجد نفسه محتجزًا داخل أحد الصناديق التي رآها سابقًا في الغاب، ولكن في مكان مظلم غريب، وبالقرب منه صناديق كثيرة احتجز فيها كثير من سكان الغاب.. دببة، أسود، فيلة، نمور، أفاعٍ، ذئاب... ماذا يجري؟ هل تلك المخلوقات الغريبة جائعة لدرجة دفعتها لاحتجاز أهل الغاب تروم التهامهم؟ إذا كانوا جوعى حقًّا، فلماذا لم يصطادوهم ويشرعوا في أكلهم؟ لماذا احتجزوهم هنا؟ وكيف وصلت أنا إلى هنا؟ وماذا يريدون مني؟ هل سيلتهمونني أيضًا؟

شاهد أفرادًا منهم يتجولون في المكان.. يضحكون ويتحدثون.. صرخ بقوة، هزَّ القضبان بعنف، حاول كسرها.. كانت شديدة الصلابة.. لم يستسلم.. اقتربوا من القفص، نظروا إليه بتحدٍّ، ازداد اهتياجًا.. من هؤلاء؟ ماذا يريدون مني؟ اقترب منه أحدهم، جلد ظهره بسوط، وصرخ به قائلًا: "اهدأ..." اشتعل غضبًا، وبحث حوله.. فتش عن الناب.. لم يجده.. للمرة الأولى في حياته يشعر بالقهر..

اقترب أحدهم من القفص، فمدَّ يده بسرعة وأمسك بعنقه وأخذ يضغط عليه بقوة صارخًا له مشيرًا أن يفتح الباب.. اقترب خلق كثير لإنقاذ صاحبهم، وهم يصرخون قائلين: اتركه أيها الوحش.. وحش حقيقي يشبه البشر ولكنه لن يكون بشريًّا في يوم ما.. اقتلوه.. خلِّصوا البشرية من أذاه!

لم يدرك ماذا يعني كلامهم.. لم يفهم كلمة مما يقولون.. هو مجرد صراخ ليس إلا..

عبر فوهة العصا التي لا تشبه عصي الغاب، قذف أحدهم كتلة صغيرة من نار، اخترقت صدره وأشعلت فيه آلامًا مبرحة لم يستطع احتمالها.. أدرك أنه هُزم..

سقط أرضًا باستسلام تام تسبح في ذهنه فكرة واحدة" ربما تكون هنا نهاية الماء الذي يستلقي على أطراف الغاب.. بئس المكان".