تتحرَّك الشهور والسنوات بين مايو (أيار) 1948 ويونيو (حزيران) 1967. من النكبة، كما حفرت في لغة تاريخنا وإعلامنا وخطابات زعمائنا، يوم أعلن ديفيد بن غوريون قيام دولة (إسرائيل) على جزء من الأرض الفلسطينية. في هذا العام، بلغت الدولة الإسرائيلية سنَّ الشيخوخة، صار عمرها 72 عامًا، هل ضعف بصرها أو تساقطت بعض أسنانها، ووهن العظم منها واشتعل رأسها شيبًا؟ تأسست الدولة الإسرائيلية على أعمدة الزمان والتاريخ والأسطورة والدين وجذور العرق، تفاعل كل ذلك مع صيرورة الصراع بين القوى الكبرى الضاربة في العالم؛ من بريطانيا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وغيرها. وعد بلفور ولد من رحم الحرب العالمية الأولى، وبعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، أضيف وقود آخر، وهو سياسي، لحطب المحرقة النازية ضد اليهود.
الاتحاد السوفياتي الشيوعي راهن على الكيان الجديد الاشتراكي الإسرائيلي؛ بصفته قوة تصطفُّ إلى جانبه ضد المعسكر الرأسمالي، في خضم الحرب السياسية والأيديولوجية الباردة، فكان في مقدمة الداعمين لقيامها، وفقًا لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة.
الحركة الصهيونية منذ انطلاقها ارتبطت بدور شخصيات فكرية وسياسية ودينية استطاعت قراءة خرائط السياسة الدولية المتحركة، ونسجت خيوط التواصل مع الشتات اليهودي في العالم، وكذلك التواصل مع القادة السياسيين في الدول الفاعلة في العالم. تيودور هرتزل لم يكن مجرد شخصية حالمة بوطن لبني إسرائيل، ومنظر لمشروعه الصهيوني، بل كان مهندسًا شاملًا للكيان الذي عبأ اليهود للعمل من أجله. ظلَّ علامة مرجعية فكرية وسياسية ودعائية. ديفيد بن غوريون المحارب السياسي كان الزعيم الذي مزج قوة السلاح بقوة السياسة؛ أعدَّ العدة لإعلان الدولة تحت شعار الاستقلال بمجرد إعلان بريطانيا انسحابها من فلسطين، تأسيسًا على قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة.
رفض العرب قرار التقسيم منذ البداية، وأعلنوا الحرب على الكيان الجديد مباشرة بعد إعلان بن غوريون. كانت الدول العربية المستقلة حديثًا ضعيفة البنية محدودة القدرات العسكرية، وحتى السياسية، وكانت الحرب الخاسرة، وتجسَّدت «النكبة»؛ قامت دولة (إسرائيل) وتوالى الاعتراف الدولي بها. بن غوريون المحطة الصهيونية الثانية بعد هرتزل. لم يتقبل العرب المغادر والقادم منهم وجودَ الكيان اليهودي الوليد بين ظهرانيهم، وبقي الحلم يشعل اليقظة بتحرير فلسطين، ترفعه الأنظمة خطابًا ونشيدًا وسلُّمًا إلى السلطة، وقفازات ملاكمة في الصراع الأيديولوجي والسياسي بينها. في سنة 1967، عادت حرارة من نوع آخر إلى أتون نار الحلم العربي بتحرير فلسطين في عالم جديد قديم.
(إسرائيل) ليست تلك التي قامت بعد عنوان النكبة، والعالم العربي ليس ذاك الذي دخل في أول حرب معها. حرب السويس محطة قادت إلى الوحدة المصرية -السورية والثورة العراقية، وزامنها ثورة الجزائر وتحقيق استقلال عدد من الدول العربية، وصار للعرب رمزهم العابر للحدود، جمال عبد الناصر. انفجرت حرب يونيو (حزيران)، وبدأ العرب العدَّ التنازلي للأيام التي تفصلهم عن دخول تل أبيب، بل الساعات لدى الجيل الذي أنتمي إليه، وإذاعة «صوت العرب» المصرية تطوي المسافة بسرعة فائقة للجيوش العربية نحو جبل المكبر.
بعد أيام ستة، تحول الأمل الأسطوري إلى زلزال دكَّ كل شيء عربي، الناس والحكام، وحتى الأرض. لم يكن في (إسرائيل) هرتزل أو بن غوريون؛ كان على رأس الحكومة ليي أشكول، وفي وزارة الجيش الجنرال موشي دايان، ضمن حكومة وحدة وطنية. لم يكن للنصر الإسرائيلي الكبير رأس واحد حمل اسمه، لكن على الجانب العربي كان للزلزال الذي أعطي عنوان «النكسة» اسم جمال عبد الناصر.
صارت (إسرائيل) كيانًا آخر تضاعفت مساحته خمس مرات في أيام ستة. صار العرب تكوينًا مختلفًا في كل شيء، لقد حلَّ بهم جميعًا ما لم يكن في الخيال، وتغلغل الإحباط في الرؤوس والنفوس إلى أن أعادت حرب أكتوبر (تشرين الأول) التي خاضتها مصر وسوريا أنفاسًا من الأمل، وأنعشت ما تشظى من الحلم.
من كامب ديفيد إلى أوسلو، سار العرب في طريق ما سمي السلام والحل السلمي، عبر الاعتراف بدولة (إسرائيل)، والعمل على إيجاد كيان فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن المسيرة اليهودية التي أطلقها هرتزل، وجسدها بن غوريون، لم تتوقف، وإن تغيرت مسافات خطواتها وأسماء من يقفون في مقدمتها. تداول على حكم (إسرائيل) أحزاب ورؤساء وزارات من اليسار واليمين، دخل جلهم فيما عرف بمسيرة السلام تحت مظلات دولية مختلفة، لكن النتيجة كانت دائمًا مجرد قبض ريح، لا كيانًا فلسطينيًّا له اسم دولة مستقلة.
أكبر ما أنجبته أوسلو سلطة فلسطينية لا تتجاوز صلاحياتها ما يمتلكه مختار محلة في حارة أو زقاق. بعد «النكبة» و«النكسة» كانت المحطة الثالثة، وهي «بنيامين نتنياهو» الذي يمثل «الكنسة»، يعمل وفق مخطط يرتكز على أعمدة قديمة جديدة.
فيه من هرتزل وبن غوريون وكل المتطرفين اليهود فكريا وسياسيا. نتنياهو يريد تأسيس (إسرائيل) التاريخية، وقد شرح ذلك بكل وضوح في كتابه «مكان تحت الشمس»؛ أصدره باللغة العبرية سنة 1993. رفض مبدأ الأرض مقابل السلام، وقال السلام مقابل السلام، ولا تنازل عن الجولان والقدس الموحدة، ولا بد من ضم الضفة الغربية، ويتحدث عن قيمتها التاريخية والدينية لليهود، فهي كما يقول قلب البلاد، فالخليل دفن فيها أجداد الأمة، وفي ألون مورية تلقى إبراهيم وعد الرب بالأرض، وبيت لحم تضم قبر راحيل، وأريحا عن طريقها دخل يوشع إلى البلاد، ونابلس حيث تليت التوراة على مسامع الشعب، ولم يتردد في القول إن العرب أمة لا فائدة منها للحضارة الإنسانية، ولا يمكن أن تستقيم إلا بالقوة. نتنياهو عاش في الولايات المتحدة، درس فيها وعمل بها، وتولى مناصب سياسية ودبلوماسية.
أتقن فنَّ المصارعة السياسية، وسيطر على حزب الليكود، وسجل أطول مدة قضاها رئيس وزراء إسرائيلي على كرسي الحكم. وظَّف التطورات الدولية لمصلحته. إفريقيا التي كانت تقاطع (إسرائيل) انفتحت له، وكذلك آسيا وأمريكا اللاتينية، وشهدت (إسرائيل) تحت حكمه تطورًا علميًّا وصناعيًّا هائلًا؛ اليوم تصدر السلاح للهند وبريطانيا.
تمكن من إقامة علاقة نوعية مع أمريكا، وكسر محاولات أوباما لفرض سياسة السلام على (إسرائيل) بالاستعانة بالكونغرس، وكان دونالد ترامب هدية القدر له. أصدر قانون يهودية الدولة. رغم الاتهامات القضائية الخطيرة التي تلاحقه، أعاد الانتخابات البرلمانية مرات ثلاث، وعاد إلى الرئاسة. قفز فوق كل الحواجز السياسية والقانونية، وتجاوز الدعم الدولي لقيام الدولة الفلسطينية حتى صار أسطورة الأسباط الثالث عشر في العنقود اليهودي. الفلسطينيون من انقسام إلى آخر، كأنهم لم يقرؤوا كتاب المحطة الثالثة «مكان تحت الشمس»، وهو «النكبة + النكسة».