ما إن يُذكر العهد الملوكي، حتى تقفز إلى أذهاننا الصورة المشوشة التي يغلب عليها التردِّي والجمود والاحتراب الداخلي، وتفتيت أوصال الدولة الإسلامية إلى دويلات وطوائف التي غلبت على ذلك العهد حتى مجيء الدولة العثمانية وتبدل الأحوال، ولكن مع ما ساد آنذاك، النساء لم يُدفنَّ داخل البيوت لتخمد أصواتهنَّ ويكتفينَ بمتابعة المعامع التي تعصف في كل مكان دون أن يكون لهن دور فيها سوى دور المتفرج المتابع عن بُعد لما يجري؛ فالمرأة المسلمة تميزت طوال مراحل الدولة الإسلامية بالبروز والمشاركة في صنع الحياة الاجتماعية والثقافية، حتى الفقهية، وفي العهد المملوكي كما في العهود الأخرى السابقة واللاحقة، شاركت النساء الرجال في تحمُّل أعباء تلك المرحلة العصيبة، إلى درجة وصلت ببعضهن أن نهضن بأعباء السلطة السياسية فسيَّرن شؤون الدولة، حتى خُطب بأسمائهن في المساجد مثل: ضيفة خاتون في الشام، وغازية خاتون في حماة، وشجرة الدرُّ في مصر، واعتلت بعضهن منابر التدريس والفقه، وأخذ الناس عنهن العلم والمعرفة، وأُخذ برأيهن في الشؤون العامة.
عائشة ابنة القاضي يوسف بن أحمد بن ناصر الباعوني، عالمة، وأديبة وشاعرة ومؤلفة للعديد من الكتب في الشعر والنثر في العصر المملوكي، ولدت في دمشق عام 865هـ، وفيها توفيت، مع أن أصولها تعود لقرية باعون في الأردن، تتلمذت على يد أشهر علماء دمشق ومشايخها، في الفقه والنحو والعروض والتصوف، سافرت إلى القاهرة لطلب العلم، حتى أجيزت بالإفتاء والتدريس، ثم عادت إلى دمشق، وعكفت على التدريس والتأليف زمناً طويلاً. لها باع طويل في فقه المذاهب الأربعة، وفي السيرة النبوية، ما دفع المؤرخين لأن يصفوها بأنها نموذج مضيء في تاريخ الحضارة الإسلامية.
قيل عنها: "ربما لم يقم في تاريخ الإسلام بعد كبار الصحابيات والتابعيات مَن يشبهها في العلم والفضل والإجادة والتأليف"، وذكر الإمام نجم الدين الغَزّي في كتابه “الكواكب السائرة” على لسانها أنها قالت: "أهّلني الحقُّ لقراءة كتابه العزيز، ومَنّ عليّ بحفظه على التمام ولي من العمر ثمانية أعوام".
أُدرج اسمها في موسوعة الشعر العربي بالمجمّع الثقافي في أبو ظبي، وأُثبت لها اثنتا عشرة قصيدة، تضم 321 بيتاً، كما أعلنت يونسكو "2006-2007م" عاماً عالميّاً للاحتفال بمرور 500 عام على ولادة الأديبة عائشة الباعونية. يقول د. حسن ربابعة في كتابه “عائشة الباعونية شاعرة”: "درجت في بيت علم وفقه وأدب وقضاء ووجاهة وأفادت من بعض حلقاته وهي لم تشبّ عن الطَّوق بعد، وتنشّقت عبَق العلم في خِدرها".