فلسطين أون لاين

مَرْيَم الأسطِرلَابِيَّة

لم تكن النساء اللاتي صنعن التاريخ وفرضن حضورهن فيه، زوجات عظيمات أو أمهات ربين الرجال والعلماء والفاتحين والقادة فقط، بل كان منهن العالمات والطبيبات والأديبات والمبدعات، مع أن كثيرات قد تجوهلهن وتجوهل عطاؤهن عن قصد أو بغير قصد، فضاع ذكرهن عبر الزمن، أو قلة منا من عرف عنهن شيئًا، وهو ما حدث تمامًا مع العالمة العربية المسلمة مريم الأسطرلابية.

لا بُدَّ أنكم سمعتم عن الأسطرلاب، تلك الآلة الفلكية الدقيقة، التي أسماها العرب في البداية ذات الصفائح، وتشبه الحواسيب في أيامنا هذه في طريقة عملها ودقتها، ولم يكن العرب ليستغنوا عنها في الملاحة وتحديد المساحة ومعرفة الوقت ليلًا أو نهارًا، واستخدموها لتحديد مواقيت الصلاة والأشهر القمرية ومواعيد فصول السنة بعد تمكنهن من قياس ارتفاع الشمس في السماء، إلى درجة كان الأسطرلاب آنذاك بمنزلة ساعة جيب يحملها معهم علماء الفلك دومًا.

قلائل من يعرفون أن العالمة المسلمة مريم الأسطرلابية هي من طورت الأسطرلاب البدائي المأخوذ من الفُرس، لتقدمه للعالم في صورته المعقدة الذي على أساسه طُورت البوصلة والأقمار الصناعية والجي بي إس، وبالاعتماد عليه أيضًا طورت الطرق والمواصلات، ومهد اختراعها الطريق للإنسان ليكتشف البحار والمحيطات والطرق البحرية، ويحدد مسارات الطائرات ويساهم في تطوير علوم الفضاء ويحدد مواقع النجوم، حتى مضى الإنسان يرسم الطريق إلى القمر ليدوسه بأقدامه في القرن العشرين، ليعرف الطريق إلى الفضاء الخارجي قاطبة بعد ذلك.

عاشت هذه العالمة في مدينة حلب السورية في العهد العباسي، العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، عصر العلم والأدب، حين كانت قيمة الفرد تُقاس بمدى ما يمتلكه من معرفة وعلم لا بما يحوزه من نفوذ وممتلكات، إلى درجة وصلت بالخليفة أن يهب مؤلفي الكتب وزن كتبهم ذهبًا، حتى لا تشغل ضروريات الحياة العارف عن معرفته وكتبه.

تتلمذت مريم في علوم الفلك على يدي والدها عالم الفلك أبي الحسن كوشيار الجيلي، فتحت عينيها على الدنيا بين الكتب والمخطوطات والآلات الفلكية، وسماع النقاشات العلمية والفرضيات التي تثبت، فكان لنشأتها تلك تأثير كبير في شخصيتها وبنائها الفكري، لم تتجه مريم الأسطرلابية إلى الأصباغ الملونة والحلي البراقة والملابس الزاهية، بل ملأ العلم والسعي لطلبه جنباتها فصقل مداركها ومواهبها، بدأت بعلم الرياضيات، ثم الهندسة حتى الفلك.

التحم اسم أداة الاتجاهات باسمها، فنُسبت مريم إليها، المحزن المبكي في الأمر أن المناهج الدراسية في العالم العربي تتجاهل هذه المرأة العظيمة المخترعة، وتتغافل عن ذكرها، فلا يتأصل في نفوس فتياتنا العربيات المسلمات أنهن حفيدات هذه العالمة المبدعة، وأن أصولهن من العراقة بحيث تمتد في عمق التاريخ.