الحديث عن رمضان داخل السجن ذو شجون، وخصوصاً عن ذلك الجانب الشعوري للأسير، ومتعلقاته من شوق ولوعة وقلق وتوق لتفاصيل الشهر الفضيل خارج أسوار السجون.
لا شيء يشبه ذلك الشعور بتفاصيل رمضان الأولى داخل السجن، السحور الأول، شكل الفجر، مذاق دعاء القيام الأول، اقتراب لحظة الإفطار الأولى وأنت مع رفاق الزنزانة، فيما وجوه أهلك في مكان بعيد، تحاول استحضارها ووضع احتمالات لتفاصيل أوقاتها، تداهمك حين تحين لحظة الإفطار وتسرقك من جو السجن إليهم، ولا تغادرك إلا حين تكتشف أنك قد أنهيت إفطارك.
في رمضان الماضي كنتُ في سجن الدامون، وقبل حلوله خلتُ أنه سيكون ثقيلا، لكنني سرعان ما وجدتُ فيه سلوتي، لاسيما بعد أن صنعت الأسيرات عالماً شبيهاً بذاك الذي يتفاعل مع رمضان خارج الأسوار، فكان الشهر حافلاً بالبرامج لدينا، والمبادرات الجميلة كتبادل الأطباق بين غرف الاعتقال قبل موعد الإفطار، وإعداد الحلوى مما يتوفر داخل السجن، وأداء التراويح جماعياً داخل الغرف، وإنشاء المسابقات خلال اليوم، بعد صلاة العصر جماعة كونها تأتي في موعد الفورة، مع موعظة قصيرة تناوبت مجموعة من الأسيرات على إعدادها وتقديمها.
حين زينت الأسيرات غرفهن بأشكال الأهلة والنجوم من مواد بسيطة متوفرة لديهن، كانت جدران بعض الغرف تبدو للرائي قطعة من السماء، وكان يمكن أن تقف أمامها متمعناً ومبحراً في فضاء تخاله بلا أسلاك، كانت زينة الجدران هذه لا تحمل فقط رمزية شهر رمضان، بل تنطق حريةً وانطلاقا، وفي هذا شيء من العزاء للقلوب النازفة سأماً وروتيناً واشتياقاً لكل متعلقات الحرية.
أتذكر ملامح الدهشة على وجوه بعض السجانين حين دخلوا للعدد والتفتيش، ورأوا (رزنامة رمضانية) قوامها دفتر يحتوي ثلاثين صفحة، ومنه نسخة معلقة في كل غرفة اعتقال، هذه الفكرة الثرية التي أعدتها مجموعة من الأسيرات اقتراحاً وتنفيذاً كانت من أبرز معالم الشهر داخل السجن، فكل يوم له صفحة خاصة تتضمن آية قرآنية، حديثا، نصيحة، فكرة عملية للتنفيذ داخل السجن، مبادرة..الخ
كنا قد وضعنا جدولاً في غرفتنا قبل رمضان يتضمن تحديد محتوى وجبات السحور والإفطار طيلة الشهر، حتى لا يكون في التفكير اليومي فيهما ما يشغل وقتنا ويأخذ مساحة من تفكيرنا، وتقاطع هذا مع فكرة طرحَتْها بعضُ الأسيرات وعممْنَها، بأن تبادر كل أسيرة وتتطوع بالقيام بعمل داخل غرفتها على مدار الشهر، وقد لقيت الفكرة تجاوباً واسعا بين جميع الغرف، فواحدة تبرعتْ بإعداد السحور طيلة الشهر، وأخرى بإعداد الإفطار، وثالثة بالجلي، ورابعة بشطف الغرفة، وهكذا.
نجح برنامج غرفتنا على نحو كبير، فيما كان برنامج الإفطار يتغير في بعض الأيام حينما تدعونا غرفة أخرى للإفطار عندها، كانت الدعوة للإفطار في غرفة أخرى بمثابة اختبار مرهق لاستغلال الوقت على نحو كامل، ذلك أن المدة المتاحة لنا بالبقاء داخل غرفة أخرى لا تتجاوز العشر دقائق، حيث يتم بعدها إغلاق غرف الاعتقال ومنع التنقل بينها، كانت الدقائق العشر تلك قصيرة تمرّ كما السحاب، لكنها طافحة بالبركة وروعة التواصل، والمودة الصافية، خصوصاً حين تذكرنا بجمعات رمضان خارج السجن، وحين تصرّ الغرفة المضيفة على تحميل ضيفاتها أطباقاً من الطعام الذي لم يتمكنّ من إكماله، ليحملنه إلى غرفتهن ويكملن فيها إفطارهن.
رمضان الحالي يبدو نسخة مخففة من أي رمضان أسير ظلل حياة كثير من الرجال والنساء في السجون، وحملهم على الإبداع وعلى صنع ما يضفي بهجة على واقعهم ويكسر روتين أيامهم المتشابهة، وما زلنا نتعلم من الحالين كيف أن الحياة تمضي بلا توقّف، ومهما كانت وطأتها ثقيلة، لكن المهم هو في كيفية إشغالها، بالاستسلام لقهرها أم بالاستعلاء عليه وهزيمة اليأس المنبثق منه، وتحرير النفس من قيودها ومكبلات حركتها وتفاعلها.
إن ذلك النور الذي نتوق لبقائه في عالمنا حاضر على الدوام، إذا ما بحثنا عنه وتعلّمنا كيف نستخرجه ولو من أعماق الدياجير.