فلسطين أون لاين

بين وفاءين وصفقتين.. يبقى الأمل مشرعًا

قال الشاعر الطغرائي في قصيدته الشهيرة لامية العجم التي حاكى بها لامية العرب للشنفري الأزدي

أعلل النفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

كلمات جادت بها قريحة شاعر، بها من المعاني ما يعبِّر أبلغ التعبير عن حال الأسرى في سجون الاحتلال، فما لأسير غيبته الجدران والأسلاك إلا فسحة الأمل كي يستمر متشبثًا بالحياة رغم قسوتها، وأمامه من سنين القهر ما يعجز باقي عمره عن إدراك بعضها، وقد أراد سجانه أن يقهر عزيمته ويغلق في نفسه باب الأمل في الحياة، بأن جعل سنوات حكمه تتجاوز أعمار البشر بعشرات بل بمئات السنين.

في زيارة لأحد الأسرى المحررين في صفقة وفاء الأحرار غداة الإفراج عنهم وهو من تنظيم يساري، سألته في أثناء الحديث لمَ لمْ يكمل دراسته العليا والأمر متاح في السجن؟ فكان جوابه أنه بدأ الدراسة فعلًا، ولكن بعد فترة وجيزة وصلهم خبر أسر شاليط، فما كان منهم إلا أن جمدوا كل تفاصيل حياتهم الاعتقالية، وجهزوا حقائبهم إيذانًا بالعودة الميمونة للديار، ولم يكن بالإمكان أن تنشغل أذهانهم بأمر آخر غير إنجاز الصفقة، واستمروا متشبثين بحبل الأمل رغم أن الإفراج عنهم تم بعد مضي عدة سنين.

إنه الأمل الذي عاشوا عليه سنوات وسنوات.. ولولا فسحته لضاقت عليهم أنفسهم فضلا عن ضيق زنازينهم كان يمكن للأسرى أن يفقدوا الأمل، وتنكسر إرادتهم أمام جبروت السجان، وتتحطم نفوسهم قهرًا وذلًا في واقع تأباه الأنفس الحرة، ولكنه عهد الرجال للرجال.. والمقاتل للمقاتل.. والقسم المقدس والقبضات مشدودة على السلاح وفي الذاكرة نشيد يتردد:

أنا يا أخي آمنت بالشعب المضيع والمكبل *** وحملت رشاشي لتحمل بعدنا الأجيال منجل

 دين علينا دماؤنا والدين حق لا لا يؤجل

وحينما يقسم الأبطال فهم أحق من يوفي القسم، وما كان للأحرار أن يخلفوا وعدهم، وها هم اليوم ينجزون الوعد.

وبقي الأمل يرقب يوم الوفاء، حتى دنا وأصبح قاب قوسين، لتعلو إرادة الحر مرة أخرى، وتتحطم إرادة السجان ويتكرر المشهد في صولة الأبطال، وتبدأ مراسم عرس فلسطيني جديد.. فأهل الوفاء وفوا.. والأبطال صمدوا والعدو جثا مرة أخرى وطأطأ رأسه صاغرًا.

ليغمض كل بطل عينيه في اللحظات الأخيرة، لترتسم على محياه ابتسامة مطمئنة، ويطلق العنان لروحه ونفسه لتحلق في غده الحر المرتقب.

كيف سيلتقي بأبيه الأشم.. وأمه العطاء.. وعائلته الوطن.. ووطنه الكرامة.. ورفاقه ذكريات الطفولة.. وهناك سيبدأ من جديد، وستقبض راحته حفنة من تراب الوطن، ليشمها بشوق ثم يتركها تنساب من قبضة برفق فتطاير مع الريح.. ويطلق زفرة حَرَّى.. ويرنو صوب الشمس ويمضي في الطريق نحو غد مشرق مجيد.