لم يمضِ وقت طويل على بدء قرار حظر التجول والتنقل في الضفة الغربية حتى تحوّلت ما تُسمى بلجان الطوارئ إلى عبء إضافي على الناس في كثير من المناطق في الضفة، وخصوصاً تلك اللجان المتخصصة في نصب الحواجز بين أحياء المدن وعلى مداخل القرى والمخيمات، وعناصرها من المنتسبين لحركة فتح، بل يبدو أن هذه المهمة باتت الوحيدة التي تمارسها لجان الطوارئ في وقت كان يمكن أن يكون مجال نشاطها أوسع وأجدى بكثير من مجرد نصب الحواجز ومحاسبة الناس وأحياناً إهانتهم، الأمر الذي تسبب بمشاكل كثيرة في عدد من المناطق تطورت إلى اعتداءات على الشخوص والممتلكات.
لا أدري حقيقة إن كانت السلطة وقيادة فتح قد وعت إلى خطورة أن تمنح أعضاءها تحديداً تصريحاً بممارسة هكذا عمل أم لا، وهو العمل الذي يُفترض أن يكون فقط موكلاً لجهات أمنية رسمية، مؤهلة لممارسة دور كهذا، وقبل كل شيء واعية إلى أنها تتعامل مع أبناء شعبها، وليس مع أعداء أو مستوطنين يُخشى من اقتحامهم المناطق الفلسطينية!
ولعلّ من البدهيات التنبيه إلى التبعات الخطيرة التي يمكن أن تفرزها هكذا سياسة، أي منح أعضاء فئة معينة امتيازاً للعب دور أمني يتعلق بالتعامل مع الناس، وما يمكن أن ينشأ عن هذا المسلك من ظواهر كالعصابوية والاستزلام والاستقواء على الضعفاء واستفحال الواسطة والمحسوبيات، وما يترتب على ذلك من فوضى وانتهاكات خطيرة وعداوات قد تتطور حتى لا يصبح ممكناً السيطرة عليها فيما بعد.
إن واجب حماية الناس لا يبرّر إهانتها، أما مخالفو القانون ومن يتعمدون الاستهتار واللامبالاة فهؤلاء يحاسبون رسمياً وعلى قدر المخالفة، ولا يحق لأحد أن يمنح نفسه الحق في إنشاء صكوك الحساب والعقاب والأمر والنهي، لمجرد أنه ينتسب للتنظيم المكوّن للسلطة القائمة.
أوضاع الطوارئ ليست فرصة لكي يبرز أحد قوّته ويتدرب على ترهيب الناس وإخضاعهم والتجبّر بهم، بل إن حال الناس الصعب يستدعي رأفة بهم وتقديراً لأوضاعهم، وإغاثتهم دونما استعراض، وتفقد أحوالهم، والوعي بآثار حالة الإغلاق عليهم، خصوصاً مع مرور الأيام.
إن الخطورة الحقيقية التي قد تفاقم انتشار الوباء ليست من شاحنة تنقل مواد غذائية من مدينة إلى قرية أو من محافظة إلى أخرى، ولا من شخص اضطر للتحرك بسيارته لتلبية حاجة ضرورية، بل من التجمعات العشوائية، ومظاهر التجمهر، حتى لو كان التجمهر لغرض إغاثي أو أمني، كذلك من التهاون في إلزام العمال العائدين من الداخل المحتل بالحجر، ذلك أن العمال باتوا تقريباً الثغرة الأساسية التي قد تساهم في زيادة الإصابات.
إلى جانب مسؤوليتها في مكافحة وباء كورونا، على السلطة أن تحاصر آفة (الزعرنة) قبل أن تستفحل وتتفشى وتعدي شريحة كبيرة من الناس، فهذا الظرف الصعب ليس فرصة لاستعراض العضلات وحشد الأنصار وتأكيد السيطرة، بل لعلّ مظاهر الاستقواء والضغط على الناس ستأتي بنتائج عكسية فيما بعد، وإن كان الجمهور مطالباً بالانضباط والمسؤولية والالتزام وعدم الاستهتار، فإنه لن يتخلّق بهذه الصفات إلا إن التزم بها قبله من هم في موضع المسؤولية، وكانوا قدوة في انضباطهم وعدالتهم ومنعهم الظلم والتسيّب.
لقد عانى الفلسطينيون في محطات عديدة من تاريخهم من مثل هذه الظواهر، ولا يجوز السماح بتكرارها وانتشارها، أو غض الطرف عنها، أو تجاهل آثارها على مستويات عديدة، خصوصاً أن هذا الظرف تحديداً لا يحتمل مثلها، مهما كانت الحجة، وليت من يعطون الضوء الأخضر لها اليوم يدركون أنهم لاحقاً سيكونون أول المكتوين بنارها.