ينبغي أن نكون بسطاء للغاية، أو مغفّلين قليلا، إذا أردنا المرور بشكل عابر على جريمة محاكمة الشهيد باسل الأعرج في محاكم القضاء الفلسطيني قبل عشرة أيام، أو التعامل مع دلالات قمع الاحتجاجات التي رافقت ذلك وفق ما عبّرت عنه الصورة الخارجية لها وحسب.
وبداية لا بد من الإشارة إلى ظاهرة سلبية تنطبع بها احتجاجات الناس وغضبهم على التجاوزات الوطنية، وهي تلك المتمثلة في البحث عن العنصر الأضعف والأقل تأثيراً في المعادلة لصبّ الغضب عليه، هذا السلوك لا يفعله الجميع بطبيعة الحال، إنما أغلبية الجمهور.
وفي قضية محاكمة الشهيد الأعرج ورفاقه وجّه كثير من المحتجين سهامهم نحو القضاء الفلسطيني، وتحديداً نحو القاضي الذي كان على رأس جلسة المحاكمة، وهناك من فسّر الأمر بأنه تجاوز شخصي من قاضٍ لم يراعِ خصوصية الشهادة وقداستها، ولم يدرك أبعاد إصراره على عقد جلسة محاكمة الشباب الستة (بما فيهم الشهيد باسل) حتى بعد استشهاده واعتقالهم لدى الاحتلال. والأمر ذاته يمكن قوله عمّن تصوّر أن القمع العنيف للمحتجين على المحاكمة وراءه ضباط في الأجهزة الأمنية، اجتهدوا ميدانياً بضرورة التعامل العنيف مع المتظاهرين.
في كلتا الحالتين، سيكون من السذاجة الابتعاد عن جوهر المسألة نحو هوامشها، أو التقليل من شأن الرأي القائل بأن كل ما جرى ليس إلا معبّراً حقيقياً وصادقاً عن سياسة السلطة ممثلة برئيسها محمود عباس، واهتمامها بأن يتشكّل انطباع قوي لدى الإدارة الأمريكية الجديدة حول جهودها في (محاربة الإرهاب)، لدرجة عدم اكتراثها بتبعات سياساتها الداخلية التي تصفع المزاج العام وتتجاوز الحدود الدنيا من الأخلاقيات الوطنية، وخاصة تلك التي تمنح الشهداء والمقاومين مكانة خاصة، وتجرّم من يمس بهم.
وليست هذه هي المرّة الأولى التي تُعقد فيها محاكمات غيابية لمعتقلين في سجون الاحتلال على خلفية مقاومتهم إياه، لكنّها المرّة الأولى التي تحاكم السلطة فيها شهيداً أثار استشهاده تفاعلاً واسعاً وحظي بموجة تضامن كبيرة، بمعنى أن السلطة هنا كانت تحاكم من خلاله ثقافة شعبها وتصادر منهم حقهم في تمجيد الشهداء والمقاومين، وتصفع تعاطفهم مع بطولاتهم. ولذلك لم تكن المحاكمة مجرّد (خطأ مطبعي) كما ظنّ كثيرون، بل كانت مقصودة في مكانها وتوقيتها وصراحتها ووقاحة قضاتها، لأن المطلوب أن يفهم الشعب بأن إرادته لا يعني السلطة في شيء، وأن الاكتراث بمزاجه يأتي في مراتب متأخرة بعد حوز الرضا الأمريكي والغربي عموما، ثم مراعاة مقتضيات الاتفاقيات الأمنية مع الاحتلال.
أما القمع، فكان أيضاً مدروساً بعناية، وهو تكرار لما حدث في الاحتجاج على زيارة موفاز لرام الله عام 2012، حيث جرى قمع عنيف في اليوم الأول، ثمّ لما ثارت ضجة واسعة تُدين ما حدث، تم السماح للمتظاهرين بالاحتجاج بحرية في اليوم التالي، وشتم السلطة وقادتها بالقدر الذي يريدون، لكن محاسبة رموزهم كانت تتم بعيداً عن وسائل الإعلام التي احتشدت لتغطية احتجاجات اليوم التالي للقمع، وبهذا تكون السلطة قد أوصلت رسالة مزدوجة، يمكن لمن شاء من المعنيين أن يقرأها من الوجه الذي يريد: إما حول صرامتها في قمع الأصوات المعارضة لعار التعاون الأمني مع المحتل، وإما حول رحابة صدرها وقدرتها على امتصاص غضب المحتجين والسماح لهم بقول ما يريدون.
ولا بأس بتتويج ذلك كله بأكذوبة تشكيل لجنة تحقيق في الأحداث، أو التعهد بمحاسبة المتجاوزين، رغم أن شيئاً من هذا لم يحدث، حيث بقي القمع وبقي الجلادون في أماكنهم، أما المعبّر الأبرز عن الحقيقة، أي ما يجري بعيداً عن الإعلام والميدان؛ في الزنازين أو على موائد التنسيق الأمني فهو الوجه الفعلي لسياسة السلطة، وهو لن يتغيّر بتغيّر شخوصها، ولا بتعاظم إدانته والاحتجاج عليه، لأنه المكوّن الحقيقي لهذه السلطة وعنوان بقائها.