تهدف صفقة القرن إلى إلغاء المشروع الوطني وإنهاء الوجود الفلسطيني، والمساس بالحق التاريخي للشعب الفلسطيني في فلسطين، والانقلاب على القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ومبادرة السلام العربية، ولكن الجدير بالاهتمام هو أن صفقة القرن حافظت على التنسيق الأمني، وهو ما يعكس جوهر العلاقة بين السلطة الفلسطينية والتنسيق الأمني من وجهة نظر طرفي الصفقة الإدارة الأمريكية و(إسرائيل).
في السابق كانت تخرج علينا بعض قيادات السلطة الفلسطينية، وتنكر وجود التنسيق الأمني، كنّا نصدّق، لأننا نثق بقياداتنا الوطنية، ومن لا يصدّق كان في مرحلة التشكيك، وليس الجزم، فربما التجاذبات السياسية هي ما تدفع حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية وأطرافا نخبوية فلسطينية، لاتهام السلطة بالتنسيق الأمني، وكأنه عار على من يمارسه، وخيانة للوطن ولدماء الشهداء.
وبدأت الصورة تتكشف رويدًا رويدًا، فبعد اغتيال الشهيد عضو المجلس الثوري لحركة فتح، زياد أبو عين، بدأ الرأي العام يستمع لأحاديث مختلفة بعض الشيء، وهي مطالبة قيادات وازنة في السلطة بوقف التنسيق الأمني. تلك الشخصيات هي من أنكرت في السابق وجود التنسيق الأمني، وقالت: "ما يجري هو تنسيق مدني حياتي لتسيير شؤون الناس، مثل قضايا التحويلات العلاجية والمعابر والحواجز والعمال وبطاقات الهوية.. إلى آخره من القضايا التي لا يعترض عليها أحد من أبناء الشعب الفلسطيني.
ثم جاء قرار القيادة الفلسطينية يوم الأحد، 14 ديسمبر/كانون الأول 2014م، والذي ربط إعادة النظر في شكل العلاقة مع الاحتلال (التنسيق الأمني) بفشل كل الخطوات السياسية والقانونية، سواء التوجه إلى مجلس الأمن للاعتراف بمشروع يقضي بإنهاء الاحتلال، أو الانضمام للمنظمات الدولية. وهذا خير دليل على أن التنسيق الأمني ليس قضية صغيرة بسيطة، كما حاول بعضهم تصويرها، وإنما هي تبادل معلومات وأدوار أمنية لمحاربة الإرهاب والإرهابيين من وجهة نظر عرّابيه. والمقصود بموضوع الإرهاب، طبعا، المقاومة الفلسطينية ومن يؤمن بها. وبذلك، يكون التنسيق الأمني تخابرًا مشروعًا مع الاحتلال، منظمًا باتفاقيات ثنائية ودولية، لعل أهمها وثيقة الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير وإسحاق رابين عام 1993، واتفاق أوسلو 1994، واتفاق طابا 1995.
ورهن المجتمع الدولي و(إسرائيل) مساعداته ومنحه التي يقدمها للسلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني. وبذلك، أصبحت رواتب موظفي السلطة التي تشكل أحد أهم مرتكزات ديمومتها واستمراريتها مرهونة بمحاربة الإرهاب والإرهابيين. وبذلك، نستطيع أن نقرأ، سياسيًا، سبب قرار القيادة الفلسطينية، وفي مقدمتها الرئيس محمود عباس، بالحفاظ على التنسيق الأمني، وتشبيهه بأنه مقدس، واستخدامه ورقة حسم أخيرة، وهو ما يكشف حجم التنسيق الأمني وأهميته بالنسبة للاحتلال، ويؤكد صوابية من كان يهاجم التنسيق الأمني، والذي أوجز تعريف له بأنه: السلطة الفلسطينية. فإن توقفت عجلة هذا التنسيق، يتوقف قلب السلطة عن النبض. وبعد لحظات، سيعلن عن وفاة الجنين المشوه الذي أنجبته اتفاقية أوسلو، لأن المال السياسي الغربي مرهون بعملية التنسيق الأمني.
وفي رؤية استشرافية حول إمكانية أن تتوقف السلطة عن التنسيق الأمني، أقول: التنسيق الأمني لم ولن يمس، طالما استمر محدد المنفعة، والمصلحة الفردية، والتنظيمية، والجهوية، وغياب المؤسسة، هو المحدد الرئيس في صناعة القرار السياسي لدى قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وأنطلق بهذه الرؤية الاستشرافية انطلاقًا من طبيعة السلوك السياسي الفلسطيني للقيادة بعد صفقة القرن، فعندما يعلن الرئيس عباس على منبر جامعة الدول العربية خلال اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب للرد على صفقة القرن، حيث قال عباس: "لقد قطعت علاقاتي بالإدارة الأمريكية ولكني لم أقطعها مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لكوني جزءًا من محور دولي لمحاربة الإرهاب المحلي والدولي"، وهنا ينبغي التركيز على كلمة المحلي والتي تعني الإرهاب الفلسطيني.
ومن هنا، ينبغي العمل الجاد من القوى الحية في الشعب الفلسطيني، للضغط على الرئيس محمود عباس والقيادة الفلسطينية، لإجراء انتخابات عاجلة للمجلس الوطني والمجلس التشريعي والرئاسة، حتى تتجدد شرعية تلك المؤسسات، وتصبح المؤسسة هي من يصنع القرار وليس الفرد. وسيصب ذلك في مصلحة المشروع الوطني التحرري القائم على العودة والتحرير، وسيكون المدخل المناسب لمواجهة صفقة القرن.