فلسطين أون لاين

"على عربة خشبية أدفع أيامي وأطارد الأحلام"

خرجت من الجامعة أعزلاً مجرداً إلا من شهادة رائعة مزركشة مختومة بختم جامعة تشهد بأني قد تخرجت بتقدير جيد جداً من تخصص الهندسة المعمارية.. تثير في نفسي الفخر والاعتزاز، وجيوب فارغة تكثر فيها الثقوب، وحذاء مهترئ تطلُّ منه أصابع قدمي، ومبالغ استدانها والدي ليدفع أقساط دراستي.. تقض مضجعه وتتعبه لعجزه عن سدادها.

خلال الدراسة كانت أحلامي تطاول الثريا.. أتمنى اليوم الذي أتخرج فيه وأنطلق لأعين أبي وأنقذ أسرتي مما هي فيه. ولكن شمسي اللامعة.. البرَّاقة.. التي تبتسم دوماً.. أخذ تبهت وتبهت حتى تلاشت.. غابت عن سمائي إلى غير رجعة.

وغدت أيامي تتكرر بلون البؤس القاتم ذاته.. لا ربيع يهل عليها ويعيد لها الحياة، ولا شتاء يغسل ما علق بها من غبار وتراكم عليها من أحزان.. غصة حرقت قلبي حين بدأت أطوف وأسعى خلف الرزق.. أشرِّق فإذا به يهرب مني مغرِّباً.. وأغرِّب فيهرب مني مشرِّقاً... رافضاً أن يدعني ألمسه أو آنس بقربه ولو لبعض الوقت.. وفي نهاية كل يوم أعود خالي الوفاض إلا من خيبات تثقل كاهلي وتتعبني.

مكاتب الهندسة ملَّت رؤيتي.. سكرتيرات الشركات حفظنني.. حبات المطر وأشعة الشمس الحارقة أشفقن عليَّ وتعاطفن معي.. خطواتي انحفرت في ذاكرة الشوارع والأرصفة.. وأنا ألحُّ في طلب عمل دون كلل أو ملل.. ولكن: كان الرفض وانعدام الفرص هو القدر الذي يتربص بي مرة تلو الأخرى.. ورغم ذلك بقيت متعلِّقاً بأهداب الأمل الذي كاد خيطه ينقطع تحت وطأة ثقل حظي العاثر.

اتصل بي ذات يوم زميل دراسة.. عرفت صوته من الكلمة الأولى.. وبعد السلامات والتحيات والاطمئنان عن الأحوال، سألني: أين تعمل الآن؟ ضحكت بيأس قائلاً: أعمل في هندسة الشوارع..

فقال: ما شاء الله محظوظ.. أنا لم أرزق بعمل في مجال دراستي حتى الآن.

فضحكت مقهقهاً: (قبضتها ساغ) يا صديقي.. لم أعثر على عمل حتى الآن.. بل أمضي أيامي متسكعاً في الشوارع باحثاً.

عاد يقول: إذن، ما رأيك أن تفعل مثلي؟

- وماذا فعلت أنت؟

- شيء بسيط يكفيك مهانة استجداء الناس وذل الحاجة.

- وضح أكثر.. أثرت اهتمامي.

...

في صباح اليوم التالي كانت ورشة النجار وجهتي.. صنعت عربة من الخشب بمقاسات حددتها له ودفعت ثمنها من ثمن قرط ذهبي لأمي.. ثم أحضرت من تاجر جملة كرتونتين جوارب ذات أحجام وألوان وأنواع مختلفة ومثلها من الشالات النسائية والقبعات الشبابية وبضع حقائب للفتيات، على أن أسدد ثمنها بعد شهر (بضمان من صديقي علي).

وفي الصباح الباكر كنت أدفع عربتي باتجاه السوق وأسير خلفها متردداً.. أبطئها حين أقول في نفسي: هل أنت مجنون أيها المهندس؟ فهل ستعمل حقاً بائعاً على عربة؟ وأحثُّ الخطى رادَّاً بإصرار: العمل على عربة أشرف ألف مرة من التسكع في الشوارع بلا فائدة.. من سيسدد ديون أبي؟ من سيقتسم معه مسؤوليات الأسرة الكبيرة؟

وما هي إلا دقائق حتى كنت في السوق أصفُّ عربتي بالقرب من صديقي علي.. يرتب كل منا بضاعته فوق عربته الخشبية. رصصت البضاعة فوق عربتي مستخدماً قواعد الهندسة التي درستها.. أدركت يومها أن كل منا يحتاج الهندسة في حياته.. فهي ليست حكراً على المكاتب والشركات وبرامج الرسم الهندسي. جعلت شكل العربة جذاباً ملفتاً للانتباه..

لم أكن وعلي الوحيدين في المكان.. أمامنا كان ياسر خريج كلية الآداب الذي يبيع قرطاسية المدارس والألوان والأقلام.. ومنتصر الذي يحمل ماجستير في التاريخ ويبيع أربطة الشعر وإكسسوارات الفتيات.. أشياء لا علاقة لها بالتاريخ كما أن الشالات والجوارب لا علاقة لها بالهندسة.. ولكن هي ضغوط الواقع التي ترغمنا على أن نرضخ لإلحاح لقمة العيش.. ونضطر للاختيار (إن كان هناك مجال للاختيار أصلاً) بين الوقوف منتظرين أحلاماً قد تتأخر كثيراً وقد لا تأتي بأمعاء خاوية وملابس ممزقة وكرامة مسفوحة، وبين مغالبة الحاجة بعمل حلال يسد رمقنا ويحفظ أنفتنا.