تاريخ النضال الفلسطيني مليء بالأبطال والمثقفين الذين خلد التاريخ أسماءهم بأحرف من نور، وباعوا أنفسهم لله رخيصة ثمنًا لتحرير أوطانهم من ظلمات الاحتلال لنيل الحرية والعزة والكرامة، وعبر الجهود الثورية التراكمية لشعبنا الفلسطيني التي امتدت مئات السنين برز دور الفكر والثقافة في مقاومة المحلتين والمغتصبين لأرضنا المباركة، وكان هذا الدور مؤثرًا في تاريخنا النضالي.
إن فلسطين تحتضن في باطنها الكثير الكثير من الشخصيات الفكرية والثقافية التي خلد التاريخ اسمها، وسخرت حياتها الفكرية والثقافية من أجل تحرير أرض فلسطين، والتاريخ يحدثنا عن ذلك، فمنذ الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917م عدد غير قليل من المثقفين الفلسطينيين يتقدمون الصفوف في الدفاع عن أرض فلسطين، وبعد انتهاء الاحتلال البريطاني وسيطرة الصهاينة على أرض فلسطين عام 1948م كان للمفكرين والمثقفين دور بارز في مقاومة الاحتلال الصهيوني إلى يومنا هذا، وقائمة المفكرين الذين قادوا مقاومة المحتلين الصهاينة طويلة، منهم الشهيد القائد عبد القادر الحسيني، والإمام أحمد ياسين، والرئيس ياسر عرفات، والقائد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والمفكر الدكتور إبراهيم المقادمة، والمفكر الدكتور فتحي الشقاقي، وغيرهم من القامات والقيادات الفلسطينية، كلهم حملوا فكرًا وثقافة لتحرير أرض فلسطين.
في مقالتي هذه سأتحدث عن الشهيد المثقف الثائر باسل الأعرج، الذي استشهد في معركة مع الاحتلال الصهيوني في السادس من الشهر الجاري، هذا الرجل الذي ترك بصماته في سجل الخالدين وسجل الثائرين ونتذكر كلماته: "إن لم تكن مثقفًا مشتبكًا فلا منك ولا من ثقافتك"، هذا الكلمات تسطر بماء الذهب في تاريخ المقاومة الفلسطينية، فهو بهذه العبارات رسخ هذه الأيام في الضفة المحتلة مبدأ أن تعيش المقاومة فكرًا وثقافةً وجهادًا من أجل نيل الحرية والكرامة.
وطالما تحدث الشهيد الأعرج في كتاباته ومقالاته عن المقاومة بالثقافة والفكر، تحدث فيها مؤرخًا لنضالات شعب فلسطين منذ الاحتلال البريطاني، وجهاد شعبنا ضد العصابات الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي عام 1948م، وشدد في كتاباته على دور الفكر والثقافة في مقاومة الاحتلال، في مقالة له عنوانها: "عش نيصًا وقاتل كالبرغوث"، واختار النيص لأنه كما كتب الشهيد "يملك نوعًا غريبًا من (البارانويا) ما نسميه فلسطينيًّا الحسّ الأمنيّ"، واختار القتال على طريقة البرغوث لأنه كما قال الشهيد "يملك إستراتيجية قتالية؛ فهو يخز ويقفز ثم يعاود الوخز، لا يستهدف قتل خصمه بل إنهاكه، وإزعاجه وإثارته".
إن البيئة التي عاش فيها الشهيد باسل الأعرج مليئة بالتنسيق الأمني والإغراءات والتنازلات من قبل سلطة أوسلو، فضلًا عن الملاحقة والمطاردة واعتقال المقاومين والرافضين لمشاريع التسوية والتنسيق الأمني مع الاحتلال، أما ثقافة الاشتباك التي يدعو لها الشهيد الأعرج فهي غريبة في ظل هذه البيئة، وقد عاش الشهيد الأعرج رافضًا هذه المعادلة معادلة الهوان والهزيمة، وبدأ يبث بين الشباب فكر أن تكون مشتبكًا مع الاحتلال أن تقاوم، وكان يدرك أن الثمن لثقافة الاشتباك غالٍ، فمنذ اللحظة الأولى التي اعتقلته فيها الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة أوسلو في رام الله وقتها قال لأمه: "هذه بداية عهد جديد سأدفع ثمنها حياتي".
وكان الشهيد الأعرج يقول: "إن لم تعزف على ألحان الرصاص فما طربت نفسك يومًا"، وخاطب المثقفين بقوله لهم: "لا تعتَدْ رؤية الصهيوني، حتى لا تألفها عينك قبل عقلك، بل افعل ما يفعله أبناء غزّة حينما يشاهدون صهيونيًّا، يركضون باحثين عن حجرٍ لرجمه به".
واختصر الشهيد الأعرج وصيته بكلمات قال فيها: "أنا الآن أسير إلى حتفي راضيًا مقتنعًا وجدت أجوبتي، يا ويلي، ما أحمقني!، وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟!، وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة، إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم، فلتبحثوا أنتم، أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله".
إن الشهيد باسل الأعرج المثقف المقاوم الثائر هو رمز فلسطيني قاوم الاحتلال بفكره وثقافته، وطبقه عمليًّا بالاشتباك المباشر مع الاحتلال حتى قضى شهيدًا، هو نموذج المناضل الثائر المثقف السائر على درب القادة المفكرين والمثقفين من أبناء شعبنا الفلسطيني، رحم الله الشهيد الثائر الباسل وأسكنه فسيح جناته.
إلى الملتقى ،،