لم يلقِ الرئيس الأمريكي بقنبلة "صفقة القرن" في الميدان، إلا بعدما امتلك مطمئناً الكثير من الأسباب، التي رأى فيها معطيات ربما وضعها في كفتي ميزانه، لترجح معها كفة نجاح الخطة، بحسب قراءته للمشهد الإقليمي والدولي.
غالباً ما كانت الأضواء تسلط على دوافع إعلان الخطة التي تسلب الفلسطينيين ما تبقى لهم من حقوق، حيث يفقدون بموجب الخطة أو "الصفقة" المزيد من الأرض في الضفة الغربية، من بينها غور الأردن، ومساحات أقيمت عليها مستوطنات، إلى جانب فقدانهم للقدس كعاصمة لدولتهم التي بدت على الخارطة كالـ"أرخبيل"، إضافة لإلغاء حق اللاجئين في العودة.
أقلام المحللين توقفت في غالبها عند تناول دوافع الطرفين "ترامب ونتنياهو" وحاجتهما لإعلان الخطة في هذا الوقت، معللين ذلك بالمأزق السياسي لكل منهما، فالأول يعيش كابوس الملاحقات القانونية ومساعي أعضاء في الكونغرس لعزله، ما يزيد من احتمالات أن يخسر انتخابه لفترة رئاسية ثانية، ما يدفعه للبحث عن إنجازات تغازل أصوات الناخبين المؤيدين لـ(إسرائيل) والمناصرين للحركة الصهيونية.
أما الثاني فيرى في "صفقة" ترامب طوقاً للنجاة تخرجه من حالة الانسداد السياسي التي وصل إليها بعدما فشل في تشكيل الحكومة وسط حالة استقطاب سياسي حادة مع أقطاب سياسية أخرى، يضاف إلى ذلك قضايا الفساد التي تلاحقه وتهدد هي الأخرى مستقبله السياسي، ليبحث هو الآخر عن إنجازات، يمنحه إياها ترامب، ويسيل بها لعاب اليمين الصهيوني المتطرف، الذي يعول عليه في إنقاذه من مآزقه.
وعلى الرغم من حالة شبه الإجماع التي تلازم القراءة التحليلية تلك لدوافع الصفقة، إلا أن تناول جوانب أخرى من المشهد لا يقل أهمية عما سلف، ربما يسهم في تشكيل صورة متكاملة يمكن من خلالها إدراك فهم شامل يمكن البناء عليه لتكوين تصور حيادي يأخذ بالاحتمالات، والسيناريوهات المتوقعة.
فقد ارتكز ترامب على المعطى الأهم قبل إطلاق خطته، والذي يتركز حول غياب الدولة الحقيقية، أو الدول ذات الدور المحوري في العالم العربي، بعد إنهاكها نتيجة ما مر بالدول العربية من أحداث إبان مرحلة ما سمي بالربيع العربي، وانتصار الثورات المضادة في عدد منها، يوازيه في الجانب الآخر ما يشاع عن استعداد دول عربية لتمويل الصفقة، ولعب دور بارز في تنفيذها على الأرض، وقبل ذلك هرولتها للتطبيع مع دولة الاحتلال، وخروج أصوات "تشيطن" الفلسطيني ومقاومته التي تناضل من أجل استرداد الحقوق، بل وتسوّغ هذه الأصوات للعلاقة مع الصهاينة كحليف وليس عدوًا يحتل الأرض العربية وينتهك حقوق الفلسطينيين، ويمتلك مشروعاً توسعياً يهدف من ورائه للهيمنة والسيطرة على المنطقة ومقدراتها.
يوازي ذلك تراجعاً عربياً تجاه مركزية القضية الفلسطينية، نتيجة ما تعانيه من أوضاع داخلية، بينما يضاف إلى واقع التراجع والتردي، استمرار الانقسام الفلسطيني الذي شجّع الاحتلال وداعميه على العمل من أجل تمرير المخططات "التصفوية" للقضية الفلسطينية.
ومع كل ذلك، لا يمكن النظر لهذه الصفقة على أنها "قدر" محتوم، على الفلسطينيين القبول به، حتى وإن تساوق ذلك مع ممارسة الابتزاز والضغوطات على الأطراف المعنية بها، كالسلطة الوطنية والأردن، على سبيل المثال، كما أن طريقة إعلانها من ناحية الترويج لها، واستخدام أسلوب "درامي تشويقي" في تحديد توقيت الإعلان، ورفض الكشف عن مضمونها قبل مدة من الإعلان عنها، تبقي الخطة في إطار المشروع المقترح للتسوية، ولا يمكن له أن يكون غير ذلك.
فقد طُرح على الفلسطينيين العديد من مشاريع التسوية لقضيتهم، خلال العقود الماضية، من ضمنها مشاريع أمريكية، كمبادرة "روجرز"، في العام 1970، والتي حملت اسم وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك، وقد وافق عليها الرئيس جمال عبد الناصر حينها، وكانت مصر في عهد عبد الناصر مركز السياسية العربية، والقطب الأهم في صياغة السياسات العربية، سيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إلا أن القوى الفلسطينية رفضتها بشكل قاطع.
فكيف هو الحال بالنسبة لـ"صفقة"، حيث إن من المتعارف عليه منطقياً بأن الصفقات لا يمكن تطبيقها إلا بموافقة طرفيها الرئيسين، الفلسطينيون ودولة الاحتلال، في وقت يضاف إلى عدم منطقية الصفقة إعلانها دون حضور وموافقة الطرف الفلسطيني، معتمدة بالتالي على قوة الإدارة الأمريكية ومكانتها وتأثيرها في صنع القرار الدولي.
في المحصلة، كان الرد الفلسطيني واضحاً في رفض الصفقة على لسان كافة القوى والفصائل الفلسطينية، والمؤسسات والفعاليات الشعبية، وغيرها، وقد صدحت الحناجر في مختلف العواصم العربية والأجنبية برفض الصفقة، ما يحتم على الفلسطينيين الآن الخوض في عملية بناء إستراتيجية محددة، تجمع كافة الطيف الفلسطيني، من أجل إسقاطها.
يتمحور حول هذه الإستراتيجية وحدة الرؤية والقرار الفلسطيني، حيث يمثل رفض الصفقة إجماعًا فلسطينيًّا لا جدال فيه، إلى جانب فتح قنوات تواصل مع كافة الجهات العربية والدولية، والاستفادة من شبكة العلاقات مع كافة الأطراف في المنطقة والعالم، من أجل توفير الدعم والإسناد للنضال الفلسطيني السياسي والشعبي والقانوني، وقبل هذا وذاك التحلل من كافة الاتفاقات التي كبّلت القيادة الفلسطينية بها نفسها طيلة السنوات الماضية، وعلى رأسها اتفاق "أوسلو"، وما يرتبط به من اتفاقيات سياسية وأمنية، أثبت عدمية المضي فيها، في رحلة البحث عن "سراب" السلام المنشود.