منذ انقلاب الجيش المصري على الرئيس المنتخب محمد مرسي وعلى الحياة الدستورية في مصر التي كانت تشق طريقها نحو النور عقب ثورة يناير، منذ ذلك الوقت تنشغل قطاعات إعلامية وتيارات سياسية مناوئة للانقلاب في استنهاض روح ثورة يناير في ذكراها كل عام، فتضخ رسائل إعلامية هائلة في هذا السياق قبيل الذكرى، وتتنوع ما بين تذكير المصريين بما خسروه جراء الانقلاب ومحاولة تعبئتهم معنوياً ونفسياً من جديد, أو باستعراض جرائم سلطة الانقلاب بحق الإنسان ومقدرات الشعب المصري, وهو ما أفرز حالة اقتصادية ومجتمعية وسياسية متردية، أفرزت بدورها تراجعاً لمصر داخلياً وخارجياً على مستويات عديدة.
كانت ثورة يناير حدثاً استثنائياً وخاصاً في لحظة تاريخية خاصة، شكلتها موجة الربيع العربي، بما صنعته من أمل وعزم في النفوس، وبوادر تغيّر حقيقي على الأرض، ولا شك أن ما كان ممكناً في البدايات وقبل موجة الثورة المضادة قد لا يكون ممكناً بالضرورة فيما بعد.
وأحسب أن المراهنين على ثورة في مصر في الوقت الراهن، على غرار ثورة يناير، ينطلقون من دوافع رغائبية أكثر منها قراءة واقعية للمشهد داخل مصر, صحيح أن الثورة تبدأ بفكرة أو بحلم، لكن الرهان على تكرار ثورة شعبية ثانية بالشكل والأدوات نفسها في غضون سنوات قليلة أعقبت إفشال الأولى أو السطو عليها يبدو أمراً خيالياً إلى حد كبير, فنحن على الأقل لا نتحدث عن جيل جديد سيحمل أعباء الثورة الجديدة, بل عن الجمهور نفسه الذي خاض سابقتها, فضلاً عن أن هذا الجمهور الذي قامت على أكتافه ثورة يناير موزع بين السجون والمنافي والقبور, فمن أين سيكون متاحاً نهوض جمهور مختلف لخوض الثورة الجديدة؟
ثمة من يقول إن تردي الأوضاع الاقتصادية في مصر سيكون مفتاح الثورة الجديدة, أي أن عنوان الثورة المرتقبة الأبرز سيكون الجوع, غير أن الجوع لم يكن أبداً سبباً كافياً ليحمل جمهوراً منهكاً على مواجهة نظام دموي, ما لم تكن معاني الحاجة للكرامة والحرية راسخةً في نفوس الثائرين, قبل الحاجات المطلبية الأخرى.
أما الأمر الأكثر غرابة وطرافة في الوقت ذاته فهو وجود من لا يكتفي فقط بالمراهنة على ثورة قريبة تطيح بالنظام في غضون أيام, بل يضع لها شروطاً ومحددات ويقرر أن يستبعد من نطاقها تيارات سياسية معينة, والمفارقة أن التيار المراد استبعاده هو ذاك الذي كان الأطول نفساً في مواجهة النظام سابقاً والأكثر إقداماً وتقديماً للتضحيات!
تلك ليست سياقات يمكن أن تفضي للثورة, وخصوصاً النمط الشعبي منها, فهذه تنقدح شرارتها في لحظة مفاجئة وتتخير فرسانها تلقائياً حين يفرضون أنفسهم بثباتهم وإصرارهم واستعدادهم الدائم للعطاء.
ليس الأمر تثبيطاً أو إشاعة للتشاؤم, لكن التغيير الحقيقي يحتاج إلى ما هو أعظم من مجرد استنهاض روح غائبة, فيما المنادون بالثورة بعيدون عن ميدانها, وفيما الميدان مثقل بالخوف والجراح, ويحتاج إلى من يقوده من داخله ويصنع النموذج, بعد أن يجد المفتاح الحقيقي للثورة والعوامل الضامنة لاستمرارها, وقبل كل ذلك الشكل المتاح والمجدي لها.
وإذا كانت إشاعة الأمل في نفوس الناس وتوعيتهم ونفح روح الإقدام فيهم وحثهم على النهوض أموراً مطلوبة دائما، فإن المراهنة على الوهم واستمرار اجتراره سيساهم في تيئيس الجماهير وإفقادها الثقة بكل الأصوات الثورية التي ترفع سقف خطابها وتوقعاتها دائماً فيما الواقع على الأرض يزداد رداءة وتراجعا.