أيام تمضي بسرعة البرق.. أرواح تولد، وأخرى تموت.. أشجار تسمق وتبلغ عنان السماء، وطيور تحلِّق بين الغيوم، وبشر يتعالون ويتطاولون ويتسابقون.. وفي الوقت ذاته أناسٌ ومخلوقات كثيرة تكبو وتنبو وتنطفئ وتقضي.. كل شيء يتغير رغماً عنا بسرعة عجيبة وتفاصيل مدهشة، فلا ثبات في هذه الدنيا ولا استقرار.
أسئلة حيرى تطرق بالنا.. تشغل أذهاننا: ماذا سيكون تلو ذلك؟ كيف؟ لماذا؟ ماذا؟ ثم منْ سيكون صاحب الدور التالي؟
أراهم يحتفلون، يرقصون ويتمايلون ويغنون.. يسكرون ويرتكبون كل المعاصي التي قد تخطر على بالك، وتلك التي تغيب عنك.. ويتناسون أن عاماً كاملاً قد انصرم ونقص من نصيبهم في هذه الحياة، دون أن يكون لديهم أدنى معلومات تخصُّ "متى سينقطع حبل الحياة وتكون النهاية".
أنظُرُ حولي: كثيرة هي الأوجاع التي تلطم قلوبنا بلا رحمة. أرى الفرح قد غادر ديارنا ولا يفكر بالعودة لها ثانية، والسكينة هجرتنا ونسيت الطريق المؤدية إلى قلوبنا، وحلَّ الحزن ضيفاً ثقيلاً يأبى أن يفارقنا، وأقام الفقر بيننا حتى أصبح فرداً منا وبنى له بيتا متيناً بيننا، وتضخم حتى أضحى غولاً نهماً يبتلع جماعات كثيرة من شعوب أمتنا دون أن يملَّ أو يُصاب بالتخمة.
العام الميلادي ليس عاماً لنا نحتفل بقدومه، ونمضي أياماً عديدة نستعد له، ونرصد ميزانية خاصة لاستقباله.. ولكن ضعفنا وهواننا على الناس هما اللذان فرضا علينا ذلك. فتقويمنا الذي نحسب أيامنا وتاريخنا بموجبه هو الهجري كما نعلم جميعاً، الذي نعتز به ويربطنا بهجرة رسولنا وبدء سيرة الإسلام وتاريخه العظيم. ولكن، لأن دماءنا باتت رخيصة، وبلادنا مستباحة، وأضحى شرفنا مدنسا، وأمرنا وقرارنا ليسا بأيدينا، فما نحن إلا مجرد دمى تحركنا قوى خفية كيف تشاء، وتفرض علينا إرادتها فنلبِّي.. أصبحنا نقيم الاحتفالات بالعام الميلادي الجديد.. فنغني ترانيمهم، ونتمايل على موسيقاهم، ونزيِّن شجرتهم، ونبقى متيقِّظين حتى تدق عقارب ساعتهم معلنة عن حلول منتصف الليل فنصرخ بملء أشداقنا بهستيريا قائلين:" Happy New Year"!
لنراجع أنفسنا، ونحاسبها، إلى متى سنبقى على هذه الحال؟
إن لم نبادر بتغيير أنفسنا، وتحديد مواطن الضعف فينا، واقتلاع الغث وغرس مفاهيم القوة والثقة والإيمان والاعتزاز السمينة مكانها... فسنبقى على ما نحن عليه.. فالله لا يغير قوماً حتى يغيروا ما بأنفسهم.
يجرح قلبي عندما أرى مواقف عظيمة في تاريخنا الغابر.. وأشاهد حالنا في هذه الأيام الواهنة. كنا قديما ننشغل بمسألة فقهية أو لغوية، فتصبح الحديث الدائر بين الناس على كل المستويات.. وأنظر الآن، فأجد الصوت الذي يدَّعي مسجلو الفيديو أنهم سمعوه في عرض البحر ويُشيعون أنه لحيتان زرقاء، أو لدودة طويلة داخل حبة فلفل ويدَّعي صاحب الفيديو أنها أفعى شديدة السمية... وغيرها كثير لا حصر.
شائعات مسلية لا أساس لها من الصحة والعقل والمنطق تسلب وقتنا وجهودنا وتضحك على عقولنا، وننسى القضايا الكبيرة والمهمة التي تعصف بوجودنا وتكاد تقتلعنا.. فقضية الأسرى، وانتهاكات وتدنيس المسجد الأقصى، وقضية المحررين المقطوعة رواتبهم، وحصار غزة، ومنع التحويلات الطبية، وغيرها الكثير من القضايا التي لا حصر لها.. ولا أستطيع أن أمضي من هنا دون أن أعرج على اتفاقية سيداو التي تكاد تهدم مجتمعنا وتلبسه ثياب الغرب المنحل.. وهذه القضية وبقية قضايانا تتطلب منا جهوداً منظمة ومتكاتفة، جهوداً لا تُهدر على الاحتفالات وتبادل مقاطع الفيديو والشائعات التافهة.
فهل ترانا سنفيق في الوقت المناسب يا تُرى وقبل أن يفوت الوقت فنكون نحن الخاسر الأول والأخير؟؟