فلسطين أون لاين

في قلب المجزرة.. "الحداد" سمع آخر أنفاس الشهداء

في يوم ميلاد "عبد الله" رحل أبوه.. وشواهد الجريمة ترافق والدة "أبو حسنين"

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

يتجه شاهر المدهون (32 عامًا) بعدما عاد متأخرًا من مشوار خارجي إلى منزله، نحو ملابس طفله الرضيع عبد الله الذي سيوافق يوم ميلاده الاثنين 14 مايو 2018، كانت العائلة تخطط للاحتفاء بهذه المناسبة، وإيقاد شمعة يوم الميلاد الأولى لهذا الطفل الذي انتظره والداه تسعة أعوام من تأخر الإنجاب حتى أبصر النور، ورد الروح إلى بيتهما بصوته وحركاته.

بعدما أمسك شاهر ثياب طفله وضمها إليه يقول: "الله يسعدك يا بابا"، ثم اتجه بنظره نحو زوجته: "بديش تحرميه من اشي.. بوصيك لقدام مش لهلقيت"، كلامه أقلق زوجته التي انفعلت، فهي لا تريد عيش تجربة الرحيل والفراق، مقاطعة كلامه: "انت ليش بتحكي هيك.. وبتوصي؟!".

14 مايو/ أيار 2018م في قطاع غزة، الفلسطينيون يستعدون لمليونية في مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار السلمية، احتجاجًا على نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى القدس المحتلة، شاهر بعدما استيقظ وداعب طفله "عبد الله"، غادر عند العاشرة والنصف صباحًا، وغادر معه قلب زوجته يلحقه إلى حيث ذهب، بعدما كان القلق يجتاحها خشية حدوث مكروه لزوجها.

عقارب الساعة وصلت في دورانها عند الثانية عشرة و25 دقيقة، هاتفها يرن، نظرت في اسم المتصل فكان زوجها، كان ذلك بمنزلة رد الروح إلى قلبها، على عجل ردت قبل أن تسمع كلماته بصوته ومزاحه المعتاد: "آه.. يا عمري يا روحي"، كان بالعادة يقول تلك الكلمات أمام أصدقائه دون خجل، يريد طمأنتها: "أنا منيح تقلقيش علي"، وفجأة انقطع الاتصال، وعادت حبال القلق تسللت إلى قلبها من جديد، لكن زوجها بعد ثلاث دقائق أعاد الاتصال وأعاد الطمأنينة إليها مرة أخرى.

زوجته آلاء، تسمع عبر الهاتف أصواتًا لأناس، مستغربة منها: "حاسة كأنه القيامة عندك"، لكنه هدأ من روعها: "تقلقيش"، الساعة الواحدة هذا الموعد الذي حدده شاهر لزوجته، كي يعود للبيت ويأخذ طعام الغداء لأصدقائه في العمل، بعد عودته من المشاركة بمسيرات العودة وكسر الحصار.

للحظات بقيت آلاء شاردة الزهن، تتأمل ملامح زوجها قبل خروجه، كانت حركاته وتعبيرات وجهه وكلامه، كلها تصرفات شخص يريد الرحيل، لكنها لم تعد طعام الغداء كما طلب زوجها، دون سبب وإدراك بما تفعل، قالت لأختها بعدما قامت بنقل الأثاث لمكان واحد بالبيت لإحداث توسعة: "هدا البيت حيودع اليوم شهيد"، فهل كانت لغة القلوب هي التي تجبر الزوجين على هذا الشعور، سؤال لم تجد له آلاء إجابة في قلبها.

انطفاء وهج الشمعة الأولى

بعد دقائق جاءت شقيقتها بوجه محمر لم تستطِع إخفاءه تكتم دموعها، تخبرها أن زوجها مصاب، تركت كل شيء بيدها، وهمت بالمغادرة، لقد صدقت رواية شقيقتها، لكنها صادفت نسوة حضرن لبيت العائلة ووالد زوجها الذي اعتقد أنها تعرف بالخبر فقام بتعزيتها: "الله يرحمه.. ويصبرك"، كان ذلك كلامًا فاصلًا بين مرحلتين، بين الموت والحياة، والألم والأمل، والحب والفراق الذي كان بقرار من قناص في جيش الاحتلال، أبى أن تفرح العائلة بميلاد ابنها البكر.

ما زال ذلك اليوم يحفر جرحًا غائرًا في قلب زوجة الشهيد، بعد أن فقدت زوجها، ترحل بصوتها لذلك اليوم المحمل بالألم: "صادف ذلك اليوم ميلاد ابننا الوحيد "عبد الله"، يومها اعترضت على الاحتفاء به بسبب وجود إرهاصات مجزرة ليس بعيدا على الاحتلال أن يرتكبها، لكن شاهر أراد الفرح بطفله: "خلينا ننبسط.. ونفرح بالولد"، وقبلها بيوم أقامت شقيقته حفلا بسيطا بيوم ميلاد عبد الله".

على دراجته النارية، ذهب شاهر لشرق منطقة أبو صفية شمال القطاع، لكنه ذهب لاحقا لشرق مدينة غزة، تحديدا عند المقبرة الشرقية، وكأن القدر كان يسوقه، لإنهاء آخر تفاصيل له في آخر أيام عمره، "اللي بيجي معي بكسب" قال تلك الكلمات لصديق شاهده عند المقبرة المذكورة، قبل أن تفتح أبراج الاحتلال نيرانها الأوتوماتيكية صوب الشبان وارتكبت المجزرة التي كان شاهر أحد ضحاياها.

تلك التنهيدة التي خرجت من حنجرتها تتكلم عن مائة حكاية بداخلها: "نحن تعودنا من الاحتلال أنه لا يوجد بيت في غزة إلا وبه مصاب أو جريح".

"تعلق شاهر بابنه لدرجة كبيرة خاصة أنه جاء بعد تسع سنوات من الزواج، كان يأخذه معه في مشاويره، لا ينام عبد الله إلا بين يدي والده، يروي له كل ما يحدث معه كأنه كبير، نحتفظ بمجلد كبير من الصور ليومياتهما معا حتى آخر يوم، يمضي فترة كبيرة في اللعب معه"... ما زالت تبحر في العلاقة بين الأب وطفله الذي تحمله الآن وحيدًا بين ذراعيها وصار عمره عامين ونصفًا.

جاء شاهر للبيت لكن محمولا على الأكتاف، شده عبد الله من لحيته، هو بالعادة يوقظه بهذه الطريقة من نومه، لكن الطفل لم يدرك أن هذه المرة نام والده للأبد، ورغم مرور تلك المدة ما زال "عبد الله" ينتظر عودة أبيه، ينظر خلف كل من يدخل البيت متوقعًا إطلالته، رغم أنه حفظ أن من في الصورة: "شهيد" تلك الكلمة التي لا يسمح سنه بفهم أنها تعني عدم عودة والده مرة أخرى.

صورة " سلفي" وبقع دماء..

جفت بقع الدماء تلك على الشال الذي كانت ترتديه والدة الشهيد المسعف موسى أبو حسنين، لكن هذا الجرح الظاهر آثاره على شالها لم يجف في قلبها بعد، رغم مرور أكثر من عام ونصف على استشهاد نجلها المسعف في أثناء قيامه بأداء واجبه بإسعاف المصابين في 14 مايو/ أيار 2018، ومنذ تلك المدة لم تترك شفاء أبو حسنين (60 عاما) أي جمعة إلا وتأتي للمشاركة في مسيرات العودة شرق غزة.

الثالثة عصرًا، تسير أبو حسنين مرتدية الشال ذاته، الذي التقطت به صورة "السلفي" الأخير مع نجلها، تلك الصورة أصبحت ذكرى معلقة على وشاح يلتف حول عنقها، تروي الحكاية التي تعود مجددًا لذكر تفاصيلها: "لا يمكن نسيان تفاصيل ذلك اليوم، كان الرصاص مثل المطر لم يرحم الاحتلال مسعفًا أو صحفيًّا أو مدنيًّا، الجميع كان في مرمى نيرانهم، كان الإسعاف الواحد ينقل ستة مصابين، أو يتم نقلهم على الدراجات النارية لإسعافهم".

"كانوا يستهدفون كل شيء يتحرك".. تلك المشاهد بقيت عالقة في ذاكرة أبو حسنين.

في ذلك اليوم، التقت بابنها موسى الذي يعمل في مجال الإسعاف، التقطا حينها صورة "سلفي" بهاتفه المحمول، كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا، عندما وصلت إلى المقبرة الشرقية بحي الشجاعية بمدينة غزة.

فاجأت الأم نجلها من الخلف مداعبة إياه واحتضنته، التفت إليها وابتسم لزميله الذي يعمل في الدفاع المدني: "أمي قيادية جاية على المنطقة الصعبة قبلنا وإحنا لسه مش جايين"، وطلب منه التقاط آخر صورة جمعته بوالدته، والتقط صورة "سلفي" بهاتفه الشخصي له معها قائلًا: "يمكن تكون هذه الصورة ذكرى لها".

كأن دقات قلبها ما زالت تحتفظ بصوت رشاشات الاحتلال وهي تطلق النار على المتظاهرين في ذلك اليوم شرق غزة عشوائيًّا: "ما إن بدأ رصاص الاحتلال يصيب المتظاهرين، حتى نادوا على نجلي لإسعافهم، أوصاني بالاحتماء خلف تلة ترابية صغيرة كان يحتمي معي بها، وذهب لإسعاف المصابين، وسرعان ما رأيته يسقط وأدركت أنهم أطلقوا الرصاص عليه في أثناء محاولته إسعاف أحد الشباب".

لم تأبه أبو حسنين لطلقات الرصاص، ولا لأصوات الشباب خلفها: "حيطخوك يا حجة"، تجاهلت تلك النداءات، فقط أرادت إسعافه، حياة سيذكرها الرداء الذي يحمل بقع دماء نجلها كثيرا في تلك اللحظات وهي تحتضن موسى، وهو ممد على الأرض تحاول أن تطمئنه "تخافش راح تتعافى".

بملاح حزينة تنطق بها تعرجات وجهها، تتابع: "ما إن وصلت موسى قلبته على ظهره خشيت أن يصاب بالاختناق، وكان يخرج آخر أنفاسه".

قدر لهذه الأم أن تعيش مشهدًا صعبًا قاسيًا على قلبها أن ترى نجلها يرحل شهيدًا بين ذراعيها وأمامها وهي لا تستطيع فعل أي شيء له، تحرر كلماتها من حنجرتها المتألمة: "ابني الذي أسعف الكثيرين لم يجد من يسعفه بسبب صعوبة إطلاق النار".

قبل أن تذهب لحضور فعاليات المسيرات، كانت لها كلمة موجهة للاحتلال: "مهما أخذوا فلذات قلبونا، إلا أننا نسير على دربهم".

الألم الإصابة

يقف الشاب عمر الحداد بين جموع المتظاهرين، الساعة الحادية عشرة والربع صباحا، أحداث دراماتيكية بمخيم ملكة في مليونية العودة احتجاجا على نقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة، تحديدا كان يقف في الخطوط الخلفية، بعيدا عن نظر جنود وقناص الاحتلال الإسرائيلي لكنه لم يكن بعيدا عن تلك الرصاصة المتفجرة التي أصابت أسفل ساقه، وأحدثت تهتكا بالعظام، قبل أن تصل إلى نفس القدم رصاصة أخرى من رشاش الاحتلال.

ترافق تلك الأحداث الحداد حتى اليوم، وهو يعاني من ألم الإصابة وممدد على سرير بيته ما زال يتلقى العلاج، يعيش المشهد المؤلم الذي غير حياته من جديد: "لقد كان حدثا صعبا، بقيت أنزف لمدة أربع ساعات، حينما نقلني المسعفون إلى النقطة الطبية شرق غزة".

مشاهد عدة عالقة في ذاكرته من هول ما شاهد: "اعتقدت أنني سأموت، كنت أرى المصابين يستشهدون أمامي، أسمع آخر أنفاس الشهداء، يأتون مصابين ثم يوضعون بالأكفان".

نقل عمر بعدها إلى أحد المستشفيات بمدينة غزة وأمضى فيها 16 يوما، ثم حول إلى مستشفى الشفاء وأجريت له عدة عمليات ومكث على الأسرة الطبية لمدة شهرين، وسافر لتركيا لاستكمال العلاج، لكن حتى اللحظة وبعد أكثر من عام على إصابته ينخر الألم جسده، لم تداوِه كل المراجعات الطبية؛ وفق إفادته.

أقعدته الإصابة على سرير بيته، لم يعد يقوى على العمل في ورشة الحدادة، يتكئ على عكازين، قدمه مهددة بالبتر حتى اليوم، كان مجرد مشارك سلمي في التظاهرة، لكن الاحتلال الإسرائيلي تجاوز كل قوانين حقوق الإنسان التي تكفل حق التظاهر السلمي وارتكب جريمة بحق المشاركين في المسيرة.

وفي يوم نقل السفارة المذكور استشهد نحو 60 غزيا وأصيب 2771 آخرين، في حين تروي قصة كل منهم تفاصيل مجزرة ارتكبها الاحتلال بحق المتظاهرين السلميين.