يُعطيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغ منك كما تروغ الثعالب.. ظاهرهُ مُسلم يؤدي الصلوات في المساجد، وإذا ما خلا إلى شيطانه غدر وغش وخان.. لقد أصبح هذا حال كثير ممن يتوجهون لقبلة المسلمين.. أتحسبون أني أبالغ أو ألبس نظارة سوداء؟! أبدًا، فمن يدقق في أحوالنا يتبيّن له أنَّ الأمانة تكاد تكون مفقودة.. أقولها والقلب يعتصر ألمًا لما آل إليه حال كثير من الناس.
الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، استهان بها كثير من الناس.. لا أَقصد حفظ الودائع وردها لأصحابها، فالأمانة بمفهومها الشامل هي شعور الإنسان بمسئوليته لكل ما استرعاه الله عليه، فالرعيَّة أمانة في عُنق الإمام والرئيس، والأبناء أمانة في عُنق الآباء، والوظيفة والعمل أمانة في عُنق الموظفين والعمال، والتكاليف الشرعيّة أمانة، والعباد مسئولون عنها يوم القيامة، قال الله (تعالى): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
كان رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يستعيذ من الخيانة فيقول: "اللهمّ إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة"، فالجوع ضياع الدنيا والخيانة ضياع الدين، لذا قال أنس: "ما خطبنا رسول الله إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له". وعندما طلب أبو ذر أن يتولى أمرًا من أمور المسلمين، قال له رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): " يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها". ولخطورة الأمر قال عليه الصلاة والسلام: "من استعمل رجلًا على عصابة (جماعة) وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين".
ومن معاني الأمانة أن يتقن العامل أو الموظف عمله ويحرص على أدائه كاملًا قدر استطاعته، وألا يستغل منصبه الذي عُيّن فيه لجر منفعة شخصيّة له أو لأقاربه، فإنّ استغلال المال العام جريمة، قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): "من استعملناه على عمل فما رزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول"، وقال أيضًا: "والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة"، قال الله (تعالى): {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
سأل رجل رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قائلًا: "متى الساعة؟" فقال له: "إذا ضيّعت الأمانة فانتظر الساعة"، قال: "فكيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة".