أسئلة تباغتها اليوم ليس لها جواب إلا صدى ذكريات يوم خطبتها حينما جاء ذلك الشاب الخجول يسألها على استحياء: "كيف حالك يا مروة؟"، يعرفها على نفسه: "أنا إبراهيم ابن عمك"، بعدما منحتهما عائلتاهما أربع دقائق فقط للتعارف، كانت كافية بالنسبة إليه لقول تلك الكلمات فأمضى بقيتها صامتًا، وذهب لمن ينتظرونه رافضًا كل النداءات التي طلبت منه الاستمرار في الجلوس للتحدث معها، وأعطى الموافقة على الفور: "توكلنا على الله".
حينها عقدا قرانهما وفي الحقيقة كان ذلك بمنزلة اكتشاف روحين.
مر شهران على حفلٍ سعيد،زُفَّت فيه العروس إليه في 4 سبتمبر/ أيلول 2019، ولا أحد كان يعلم أن هذا التاريخ سيصبح ذكرى مدونة على "كرت الزفاف" المتبقي من تلك الفرحة غير المكتملة.
13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، استيقظت غزة على وقع خبر اغتيال القائد في سرايا القدس بهاء أبو العطا، عقارب الساعة وصلت في دورانها عند الثامنة صباحًا، صوت رنين وارتجاج قادم من هاتف مروة، وكان المتصل أمها تسألها بلهفة وصوت مرتج: أين إبراهيم؟ ردت ابنتها التي كانت تحضر طعام الإفطار: "خرج من البيت صباحًا"، صمتت أمها، وكذلك هي، أوقد صمت الأم هواجس تفكيرها، فسألتها ابنتها بقلق: "ليش.. ايش صايرله".
أمها المتوترة كذلك؛ ترد:
- لا أعرف؛ جاء لوالدك اتصال وخرج مسرعًا من المنزل (...) يقولون إن زوجك مستهدف من طائرات الاحتلال.
كلمات أسقطت الهاتف من يدها على الأرض، سبقه قلبها الذي لم يقوَ على خبر كهذا، فلم يمضِ على فرحتهما شهران، وكأن دمها تجمد في عروقها، حبست أنفاسها، اهتز قلبها، مطلقة العنان لدموع حزنها بالجريان على وجنتيها.
والده الذي يوجد في القاهرة لمتابعة فحوصات طبية في ذات اليوم، يتصفح مواقع الإنترنت بعدما سمع بخبر الاغتيال، يتنقل بين الصور والصفحات والأخبار، كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحًا، ظهرت أمام شاشة هاتفه صورة نجله "إبراهيم" تعلن فيه وسائل الإعلام خبر استشهاده، خبر نزل كالصاعقة على قلب الأب، مرت لحظات حتى جاءه خبر آخر أن ابنه مصاب.
الصراع الأخير
أمام حيرته اتصل الأب هاتفيًّا بابن شقيقته الذي يعمل طبيبا ويوجد في غرفة العمليات مع إبراهيم يبحث عمَّا يبرد قلبه ويطفئ نار القلق التي أضرمها الخبر السابق، يسأله بخوف: كيف وضعه؟ الطبيب يحاول طمأنته: "ادعيله بالرحمة"، عاد والده للسؤال: "صارله اشي؟".
الطبيب المنشغل بغرفة العمليات يشرح حالته: "إبراهيم مقطع.. قدماه مبتورتان ويده وعينه وأحشاؤه، لكنه ما زال يتنفس".
رغم خطورة الحالة إلا أن تلك الأنفاس التي تصارع الموت، أعادت الأمل إلى قلب والده، إلى أن جاءه خبر استشهاد نجله الساعة الرابعة عصرًا.
في مراسم بيت العزاء لم تجد زوجة إبراهيم سوى الدموع لتخفف عنها، وكأنها أصبحت ضيفها الدائم وملاذها حين تجوبُ الذكرياتُ وجدانها، بدت صامتة شاردة، تنساب الدموع من عينيها كنهر مندفع يسكب أحزانه، لتواسي صدمتها بهذه القطرات.
تهيأت عينا زوجة الشهيد بعدما أبرقت، ذرفت دمعة وتبعتها أخرى، تأخذها الذاكرة إلى ما قبل استشهاد زوجها: "جاء إبراهيم متأخرًا إلى المنزل، وكان سعيدًا جدًّا مستبشرًا، وأخبرني بما يشعر به وطلب تناول العشاء معًا في البلكون والهواء، وسهرنا معًا، حدثني قليلًا عن وضع غزة العام، وعن حياتنا أنه قريبًا سيستأنف إكمال "تأثيث" المنزل وأن الأمور ستصبح أجمل وبعدها ذهب للنوم لأنه كان متعبًا، في اليوم التالي استيقظ على خبر الاغتيال وخرج من المنزل".
"أجمل لحظاتي معه، عندما تقدم لخطبتي كان يومًا من أجمل الأيام، حيث جلسنا معًا لحظة التقدم وابتسم، وقال لي: كيف حالك.. أنا إبراهيم ابن عمك وبس"، ومن ثم تركني وقال: "جلست معها"، والجميع حدق النظر به: "بس بس؟.. اجلس كمان"، فقال: "توكلنا على الله"، قطعت الدموع حديثها، وما أصعب لغة العيون حينما تروي حكاية الفراق.
بصوت خافت رددت: "حسبي الله ونعم الوكيل".
أمام المنزل الواقع شمال قطاع غزة، تحديدًا بمنطقة "التوام"، يستقبل والد الشهيد المعزين، عيونه التي تحبس دموعه، صوته الذي يخفي الحزن بين ثناياه، كلها تروي حكاية أب فقد فلذة كبده، قبل أن يحرر كلماته الصامتة قائلًا بصوت يقطر الحزن منه: "عندما تأكد خبر استشهاده، طلبت من عائلتي ألا يدفنوه إلا عندما أعود وألقي نظرة الوداع الأخيرة، أقسمت لهم أنه في حال دفن ولم أضمه بين ذراعي، وأحضن فلذة كبدي، فإنني سأخرجه من القبر، فوصلت في اليوم التالي أرض القطاع (...) ودخلت من معبر رفح الذي كان مغلقًا حينها كحالة استثنائية".
يرحل صوت والد الشهيد ومعه ذكرياته إلى ما قبل شهرين: "فرح إبراهيم بزفافه كثيرا، والجميع فرح له لكن قلبي كان مقبوضًا لأنني أدرك أن حياة ابني يمكن أن تنتهي بسبب الاحتلال في أي لحظة، خاصة أنه تعرض لمحاولات استهداف سابقة".
عام 2014م تحديدًا ليلة "عيد الفطر"، استهدفت طائرات حربية تابعة للاحتلال منزل العائلة الآخر في منقطة "السلاطين" شمال القطاع، في أثناء وجود إبراهيم، فكانت إصابته طفيفة، كما نجا من استهداف آخر في الشهر نفسه.
قطع بعض المعزين القادمين حديثه، توقف برهة عن الكلام، كان عناقهم يواسي حزنه، ثم أبحر في صفات نجله: "إبراهيم طيب، كان يسير خلفي في كل صلاة فجر يراقبني لكوني مريض قلب، دون أن يشعرني بذلك، يخجل من النظر إلى وجهي".
حتى تفاصيل الفقد هنا مرهقة: "حينما سافرت قبل أسبوعين، ولأني أغادر للعلاج لا أودع أهل بيتي، لكن يومها ودعني إبراهيم وقام بحضني وأمسك حقيبتي ووضع بالسيارة، وعانقني مرة أخرى، ما أثار استغرابي: ايش في؟ لكنه اكتفى بالرد: أنا خايف عليك.. في الحقيقة كان خائفًا على نفسه".
"جيتار" شام!
أرهف إبراهيم بحب الأطفال، كان يخص منهم ابنة شقيقته وتدعى "شام" (أربعة أعوام)، على جنبات بيت العزاء أدار والد الطفلة يوسف فارس ظهره للمعزين، بمجرد أن بدأ الحديث عن هذه العلاقة التي تجمع طفلته بخالها، دغدغت الدموع مشاعره وقاطعت الحديث من بدايته.
حاول مسح دموعه بيده، لكنه لم يستطِع فواصلت الهروب منه، يكمل حديثه بصوت تخنقه الدموع: "تعلقت شام بخالها إبراهيم، ولشدة ذلك أدمعت يوم زفافها، اعتقدت ببراءة أن هناك من سرق خالها منها، فكان يحبها".
"وين إبراهيم؟.. سيده بحكي بالجنة؟"، تحدث شام والدها، كتم الأخير جراح قلبه وأخفى دموعه عنها، لتسأله مرة أخرى: "انت بدك تاخدني بالسيارة على الجنة"، (الجنة بالنسبة لها هي أرضهم التي دائمًا يذهبون إليها)، مسح يده على شعرها: "ماما عيانة"، الطفلة لا تدرك ما يجري: "خلص لما تقبض بتاخدني على خالو.. بس الآن خدني على صاحبه بلال؛ اشقتلته"، حينها لم يستطِع والدها إسكات دموعه فبلال الذي تريد ابنته رؤيته يرقد في غرفة العناية المركزة بين الحياة والموت، مبتور الأطراف وضعه خطير نتيجة استهداف الاحتلال له.
تهيأت عيناه مرة أخرى، سرد الحكاية لم يتوقف، يواصل والد شام: "يوم ميلاد طفلتي في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أي قبل استشهاده بعدة أيام، اتصل إبراهيم بزوجتي يخبرها عن هدية يريد شراءها لشام".
عبر سماعات الهاتف قالت الطفلة: جيبلي "جيتار" (آلة موسيقية)، وقبل يومين من استشهاده اتصل وأخبرها أنه اشتراها ويريد إرسالها، لكن أمها استغربت من عجلته: "ما زال هناك وقت ليوم الميلاد".
"يوم استشهاده رأيت أبنائي الثلاثة التوائم (بنتان وولد) يحاكون يوم زفاف خالهم، وبعد لحظات جاءني خبر استشهاده".. مسح والد الطفلة دموعه التي لم تتوقف وعاد لبيت العزاء.
ستمر ذكرى ميلاد شام بعد أيام، لتجدد الأحزان، هناك سيكون الفرح هذه المرة حزينًا وصعبًا، سيبقى "الجيتار" الذكرى الأخيرة من إبراهيم لحبيبته الطفلة "شام"، التي ستذهب إلى الأرض وتبحث عن "إبراهيم"، لن يستطيعوا إقناعها بأن روحه رحلت بلا عودة، وجسده أصبح تحت الثرى، ستبكي زوجته التي لم تهنأ بفرحتها، سيزورها فقط في المنام، أو على شكل طيف في الذكريات التي ستؤجج نار الفراق بداخلها.