أن تكون ضابط إسعاف يعني أنك تحمل همًّا كبيرًا في أن تكون سببًا لإنقاذ المصابين؛ أن تحاول حبس دموعك لحظة سعيك إلى علاج طفل أو شاب يوشك أن يخرج آخر أنفاسه أو أن يتوقف قلبه، فليس أمام هؤلاء المسعفين سوى بعض الدقائق "الذهبية" لوقف النزف، إنهم يحبسون مشاعر تأثرهم بالمواقف التي يمرون بها حتى وصول المصابين إلى "بر الأمان"، أي المستشفى.
الجمعة، الساعة الرابعة عصرًا، مع بدء توافد المتظاهرين السلميين إلى مخيم ملكة شرقي غزة، يسير المسعف بوزارة الصحة ثائر أبو شعر (29 عامًا) نحو سيارة الإسعاف لتفقد أدواتها الطبية مرتديًا ملابس الإسعافات بلونها الفضي، تعلو سترته خيوط لامعة تعكس أشعة الشمس، لما تلامسها.
بعد أن فتح باب سيارة الإسعاف المجهزة بغرفة عناية مركزة، يتفحص حقيبة الولادة الزرقاء المعلقة على يمين الباب، تقدم خطوة أخرى للتحقق من جهاز التنفس الصناعي، ثم انتقل إلى أسطوانتي الأكسجين في زاوية الإسعاف، وهذه هي إحدى أهم الأدوات في الإسعاف، سقط نظره إلى الأسفل تجاه نقّالة ذات لون برتقالي يستخدمها المسعفون لنقل المصابين قرب سياج الاحتلال الفاصل، أو في الأماكن التي لا تستطيع سيارات الإسعاف الوصول إليها.
يتوسط السيارة سرير متنقل أمامه صناديق بيضاء في الأسفل، يستمر أبو شعر بفتح الصناديق الثلاثة والتحقق من وجود المستلزمات الطبية فيها، رفع رأسه إلى الأعلى بحركات بطيئة، يفتح صناديق تحتوي على أجهزة تثبيت الكسور للرأس والفخذ والساق، والمحاليل الطبية بأنواعها، والشاش الطبي، والأدوية.
"هل وقعت هناك إصابات؟" يكاد يلتقط أنفاسه بعد أن انتهى من تفقد الإسعاف، لتأتي الإجابة عن سؤاله من زميله: "القط أنفاسك يا ثائر، الحمد لله، لسه ما في إصابات".
تجبر تفاصيل المكان والجو العام هنا دقات قلبك على الاضطراب، فكيف بمسعف يقف على أهبة الاستعداد، ينتظر إشارة الانطلاق لإنقاذ المصابين؟!، هنا لا مجال للخطأ أو نسيان أي مستلزم طبي، فالخطأ أحيانًا قد يكلف الفشل، وهذا ما حتم على ثائر تفقد الأجهزة جيدًا.
بعد أن التقط أنفاسه، يتحدث ثائر في غرفة الإسعاف إلى صحيفة "فلسطين"، قبل انطلاقه للعمل، وكان يتصبب عرقًا: "نتحقق من سلامة المعدات كل جمعة، لأننا نتعامل مع إصابات خطرة".
يضيف: "الاحتلال يجرب السلاح الجديد على المتظاهرين السلميين، وقلما نجد حالة بسيطة".
آثار شاهدة
أسفل بنطال ضابط الإسعاف توجد ثلاثة ثقوب، مع أن ملابسه ليست مهترئة، كانت هذه آثار شظايا رصاصة متفجرة أطلقها الاحتلال على أحد المسعفين، وارتدت آثارها إلى "أبو شعر"، لتكون شاهدة على ضريبة يدفعها المسعفون أحيانًا مقابل دورهم في خدمة المصابين، بعضهم دفع حياتهم ثمنًا لذلك، وليس ببعيد حادثة استشهاد المسعفة رزان النجار (21 عامًا) برصاص الاحتلال شرق خان يونس في أثناء إسعافها أحد المصابين.
بأطراف أصابعه يشد سترته إلى الأمام قائلًا: "أصعب تحد يكون أمامك أن تجد إصابة ملقاة على الأرض في ميدان الحدث ولا تستطيع إنقاذها، حينما تتقدم خطوة إلى الأمام يطلق قناص الاحتلال النار قربك، وهي رسالة مفادها: إياك أن تقترب أكثر".
كان صوته ممزوجًا بشحنات التحدي يمنحه إياها حبه للمهنة، تعكس ملامحه القمحية التي أكلت الشمس لونها جهدًا كبيرًا يبذله المسعفون، يدفعون ثمنه من ملامحهم وأوقاتهم، وأحيانًا من أرواحهم، لكن هذا لا يمثل شيئًا لأبو شعر مقابل علاج المصابين.
يقول: "إسعاف المصابين شعور جميل يشعرني بسعادة كبيرة، وكأننا في معركة لنكون سببًا في إنقاذ الأرواح، نخوضها مع جيش الاحتلال، فهو يقتل ويصيب ونحن نصارع الوقت لمحاولة إنقاذ الأبرياء".
بعد أن مسح قطرات العرق بتمرير أصابع يده على أعلى جبينه، يضيف: "لم أتغيب عن خدمتي بمسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار السلمية، أتدري أن قناص الاحتلال الإسرائيلي يطلق الرصاص على مناطق المفاصل التي يحدث بها نزف لإحداث إعاقة دائمة، أو القتل؟".
"الجمعة الماضية استهدف قناص الاحتلال جميع المصابين بالمنطقة نفسها، وهذا يعني أن الإصابات متعمدة" يواصل كلامه.
ووفقًا لإحصائية صادرة عن وزارة الصحة بغزة بلغ عدد الشهداء منذ انطلاق مسيرة العودة الكبرى وكسر الحصار السلمية في 30 آذار (مارس) 2018م حتى 7 أيلول (سبتمبر) 2019م 312 شهيدًا، وبلغ إجمالي عدد الجرحى 34 ألفًا و282 جريحًا.
قصص لا تنسى
مواقف عدة مر بها المسعف "أبو شعر"، يمسك هاتفه المحمول من نوع (تابلت) يتفقد الصور، ويقلبها، يتوقف عند صورة لمسعفين يحاولون نقل طفل، من خلفه يظهر ثلاثة جنود من جيش الاحتلال ينظرون من خلف شباك حديدية، يعيش الحدث مرة أخرى: "انظر، هذا الشهيد عثمان حلس كنت أحاول إنقاذ حياته، وإجراء عملية إنعاش قلبي له، لكن كانت إصابته خطرة بعدما اخترقت رصاصة متفجرة قلبه وخرجت من الجهة الأخرى (..) يومها تقدمت قرب السياج الفاصل ونقلته".
يقلب الصور حتى دغدغت صورة وقع نظره عليها مشاعره، تعيده للحظة لم ينسه مرور الأيام إياها، في الصورة يظهر المسعف أبو شعر وهو ينقل مصابًا، تظهر ملامحه وسمات أصدقاء المصاب قلقًا، يخرج تنهيدة، يحرر كلماته: "هذا اسمه محمود أبو سمعان، أصيب بطلق ناري في البطن، أوقفت النزف بلف الشاش، لكن خلال نقله إلى المشفى توقف قلبه للمرة الأولى".
لا يزال يستذكر تلك اللحظة: "على الفور وضعت يدي فوق الأخرى وبدأت إجراء عملية إنعاش قلبي ورئوي له، فعاد نبضه، وبعد لحظات توقف مرة أخرى، وأعدته بالطريقة نفسها، ثم توقف النبض مرة ثالثة، وأعدت المحاولة حتى عاد نبضه، وأوصلته إلى المشفى".
"لكن -يا للأسف!- بعد نصف ساعة علمت أنه استشهد".
في أحد أيام المسيرة بقي لحظات على رحيل أشعة الشمس، المتظاهرون السلميون غادروا الخيام، وتجول أبو شعر بسيارة الإسعاف بمحاذاة سياج الاحتلال الفاصل للتحقق من عدم وجود شهداء أو مصابين، استمر مسير السيارة بهدوء يرافقه مسعف آخر، قبل أن يسمعا صوتًا لرصاصة قدر مسافتها على بعد نحو 500 متر.
ترجل من الإسعاف، وتقدم بخطواته، يسمع صوت صراخ وألم يقترب منه، فتحرك مسرعًا بنقالة الإسعاف، يتابع: "وجدت شخصين أحدهما مصاب بقدميه، واحدة منهما مبتورة من أثر الإصابة، والآخر صديقه الذي لم يصب ويقف مندهشًا خائفًا لا يعرف ماذا يفعل فلا يحمل هاتفًا محمولًا".
تلك اللحظات لا تفر من ذاكرته، ولا من حديثه هنا: "كان النزف شديدًا، فلو تأخرت خمس دقائق ربما فقد حياته، أوفقت النزف ونقلته إلى سيارة الإسعاف".
ينتقل إلى صورة أخرى، تغطي وجنتيه ابتسامة عريضة قائلًا: "أتدري من بالصورة؟"، تظهر صورة المسعف وهو ينقل مصابًا لم تبدُ حالته خطرة، ثم يكمل كلامه: "هذا أخي، ذهبت لتفقد مصاب فوجدت شخصًا ينادي باسمي "ثائر"، كان صوتًا متألمًا، فالتفت إلى الخلف فوجدته أخي، تعاملنا مع الحالتين ونقلناهما إلى المشفى".
قبل أن ينزل من سيارة الإسعاف يسدل الستار على حديثه قائلًا: "هناك خمس دقائق ذهبية أمام أي مسعف، إذا لم يستطع أن يكون سببًا في إنقاذ حياة المصاب فيها؛ فربما سيفقد حياته، وأصعب أنواع النزف هو نزف الفخذ، ففيها يُضخ الدم بسرعة لحظة الإصابة لاتصال شريانها مباشرة بالقلب".

