فلسطين أون لاين

​"رسائل مبعثرة من عمق الغياب"

تُدير نظرك في اتجاهات متضاربة بحثًا عن من يؤنس قلبك، يساندك، يخفف آلام روحك، أحد تنتمي إليه وينتمي إليك، يشبهك، ولكنه ليس صورة عنك، يفهمك، وليس بالضرورة أن يتبنى أفكارك، يحبك، برغم ما فيك من نقائص وعيوب وأخطاء يغفرها لك، تُفاجأ حين تبوء نتيجة بحثك بالفشل، وتعود خالي الوفاض.

المكان من حولك مكتظ بالبشر، ولكنَّ الوحدة والعتمة والغربة هي حظك الوافر الذي يتربص بك ويُحكم قبضته على روحك ويحاول خنقك، يسدُّ الفجوات أمامك، ويبذل ما بوسعه ليدفعك لتستسلم بقنوت لحقيقة مفادها: لقد انتهى كل شيء، وما من فائدة تُرجى، فشعاع الأمل قد نفذ منذ زمن بعيد، ونوافذ الرجاء قد أوصدت بإحكام لن يسمح بتسلل خيوط الشمس الوليدة، أما الدروب الوعرة المتبقية أمامك فعلى جوانبها وحوش كاسرة، مفترسة، تتربص بك، تكاد توقعك في شِراكها، ثم تلتهمك.

آهٍ من ليالي حالكة السواد، شديدة الضيق!، آه من قلوب محبة رحلت، غادرت ونسيت أن تترك لك موعدًا للقاء، مضت وضلت طريق الإياب، فلن تعود!

ومعها ارتحلت آذان صاغية وعواطف رقيقة وابتسامة مشرقة وحبُّ متجدد لا ينضب، وتركتك وراءها بشتات مبعثر، وضياع لا يتغير، وحيرة إلى أمد غير معلوم قد تستمر.

أراك تتمنى، وتتمنى، بَيْدَ أن أمنياتك تتوه في اكتظاظ الدروب الموحلة؛ فتغيب، وتغيب.

وغدوت مثل صحراء قاحلة شديدة الحرارة، شقائقها لا تنبت، وفراشاتها تعجز عن الطيران، وعصافيرها مخنوقة لا تشقشق، التهمتها غربة الروح والوحدة والغياب.

**********

أطلق الطفل الذي يسكن أعماقك، فكَّ قيوده، تذكر الفرح الطفولي الذي كان يرافق خطواتك، أَتذْكره وهو يسير معك جنبًا إلى جنب في كل وقت تعبره متعجلًا وعيناك ترنوان إلى المستقبل، وفي نفسك عبارات لا تملُّ من ترديدها: عندما أكبر أريد أن أكون ...، عندما أكبر سأفعل وأفعل ...؟

ولكن أين أنت الآن؟، أين تقف؟

تعمد إلى صندوق مجوهراتك الثمينة، تستخرج منه مشاعر ساذجة صادقة، فرحًا بريئًا، ذكريات كأنها أغلى نفائسك، صدى ضحكاتك يعلو في الأفق، تتمنى لو أن الزمن يرجع إلى الوراء قفزة أو قفزتين، لا يضير، المهم أن تستعيد بعضًا من تلك البهجة التي كنت تظنُّ أنها ستتعاظم عندما تكبر.

كنت تعتقد أنها سوف تكبر وتطاول الغمام مثل شجرة الكينا التي زرعتها برفقة جدك في موسم الفرح ذاك أمام البيت، علها تكسو بظلها الشارع، كبرت الشجرة وتعاظمت وطاولت السماء، وبهتت طفولتك وتلاشت، وما زلت تنتظر ذاك الفرح برغم ما أصابك من جفاف ويباس.

**********

تخذلك الأوقات والمسافات والبشر، تتخبط أفكارك، ويقف دمعك البائس أقرب منك إليك، تجرُّك هزائم واقعك إلى دروب سهلة معبَّدة بالياسمين الأبيض الشذيِّ، تغيِّبك في أحلام يقظة ممتدة، عوالم وهمية متخيَّلة فائقة الجمال، ومرات أخرى توقعك في معارك دونكيشوتية تحارب فيها أذرع طواحين الهواء التي تلِّوح بحرابها مهدِّدة من بعيد، ترتبك، تترنح، الخدر يضرب أطرافك بلا رحمة، ينحسر الحجاب عن جانبك المظلم، الهش، الضاوي، الذي كنت تخفيه في أعمق أعماقك، تسقط ورقة التوت في وقت لم تكن تجيد فيه سوى لغة الصمت والغياب.

تنداح بعدها فتحة لا متناهية، تشغر فاها، تصارعها في البداية بكل قوتك، وهي تتأهب لابتلاعك بإصرار؛ فهل تستسلم؟!

**********

بعض الأيام تخشى أن تكون هي الورقة الأخيرة في تقويم حياتك، فما زال لديك الكثير لتفعله، أنت بحاجة ماسة لمزيد من زمن لا تدري كيف يتسرب من ثقوب حياتك، تحاول جاهدًا الاحتفاظ ببعضه، بشيء منه، ولكنه يتطاير ويتبخر رغمًا عنك، أوقات كثيرة انقضت بلا هدف، بلا إنجاز، تبكيها الآن وتتحسر عليها، ألا ليتها تعود؟!