استكمالًا لحديث الأمس حول مكامن القلق الإسرائيلي من العملية العسكرية التركية شمال سوريا، فقد شكل القرار الأمريكي بالانسحاب من هناك بصورة مفاجئة بشرى سيئة لحلفاء الولايات المتحدة، وعلى رأسهم إسرائيل، وهي المرة الثانية التي يفاجئها فيها ترامب، بعد أن قرر سحب قوات من سوريا في ديسمبر.
شكلت هذه الأحداث مجتمعة واقعًا إستراتيجيًّا جديدًا في المنطقة يستوجب استعدادًا إسرائيليًّا، لأن إخراج الجنود الأمريكيين من شمال شرق سوريا، وترك الأكراد يواجهون مصيرهم المحتوم أمام الأتراك، يجب أن يشكل مصادر قلق جدية، وليست مفتعلة، في تل أبيب.
تكشف العملية العسكرية التركية في شمال سوريا، والحيثيات التي سبقتها ورافقتها، الخشية التي عبر عنها الإسرائيليون بأنهم لا يريدون الوصول إلى وضع أو سيناريو يكونون فيه مثل الأكراد أو السعودية الذين لم يحصلوا على دعم ومساعدات أمريكية، لأن خذلان الأكراد من قبل الأمريكان مؤشر جديد على أنه لن يقاتل أحد نيابة عن إسرائيل، مع العلم أنها عاشت فترة من الزمن تحت تأثير فرضية مفادها أن الأمريكان سيتصدون بالنيابة عنها، وهذه فرضية تبين أنها مخطئة تماما، ومحظور البناء عليها في ضوء التطور التركي.
على الصعيد الإسرائيلي الكردي المباشر، فإن مصدر القلق الإسرائيلي من العملية العسكرية التركية في شمال سوريا ينبع من فقدان إسرائيل لحلفائهم الأكراد، وضياع فرصة كبيرة لإقامة كيان سياسي كردي أو حكم ذاتي، يمكن من قيام تحالف كردي إسرائيلي من شأنه أن يخدم الجانبين، المرتبطين بمصالح استراتيجية مشتركة.
تسعى إسرائيل من بقاء الأكراد قوة إقليمية في المنطقة لعدم إحياء خطر "الجبهة الشرقية"، ومحاصرة تركيا وإيران، وقد كشف النقاب أن إسرائيل اتخذت من إقليم كردستان منطلقًا لعمليات نفذتها ضد منشآت إيرانية، مما يكشف عن توافق في العلاقات العسكرية والأمنية بين الإسرائيليين والأكراد الضاربة في القدم.
إن التقييم الإسرائيلي للتطورات التركية الكردية يتم تحديثه على قدم وساق، وعلى مدار الساعة نظرًا لحساسيتها، ولعل الاستخلاص الأهم فيها أن إسرائيل تتشارك مع الدول العربية المعتدلة والأكراد في تقدير موقف يزداد وضوحًا يومًا بعد يوم، وهو أنهم أمام رئيس أمريكي بوصفه حليفًا غير موثوق به، لأن الولايات المتحدة تعيش في مرحلة منفصلة عنهم جميعًا، وهم المفترض أن يكونوا حلفاءها الأهم والأوثق في المنطقة.
أخيرًا.. إن العملية العسكرية التركية في شمال سوريا، وما سبقها من انسحاب أمريكي، وقبلها التخلي عن السعودية عقب الهجمات الإيرانية عليها، كل ذلك يؤكد لإسرائيل أن ترامب شخصيًّا مستعد لأن يبيعها أسلحة ووسائل قتالية دون أن يساعدها عسكريًّا، ولذلك باتت تشهد إسرائيل في الأسابيع الأخيرة ذات الحالة من التململ وخيبة الأمل التي تسود الدول المعتدلة، خاصة السعودية والإمارات من أمريكا.