صعبة تلك اللحظة التي تجد نفسك أمام المرآة بلا شعر، قاسية على أي إنسان أن يفقد الرأس شعره رويدًا رويدًا، ويرحل عنه بغير رجعة بعد أن التهمه مرض السرطان.
"كنت أتوارى عن الأنظار.. لا أظهر أمام أطفالي وزوجي إلا بغطاء الرأس! ولا أقبل شكلي أمام المرآة، لكنني اليوم أرتدي شعرًا مستعارًا يشبه شعري الذي لم يعد موجودًا، تبرعت لي به امرأة غير مصابة بالسرطان، وأعاد لي سعادة غائبة"؛ وكأنَّ الحياة عادت من جديد إلى مريضة السرطان رانيا أبو نادي (33 عامًا)، التي تتحدث بهذه الكلمات.
لا يقل تأثير فقدان الشعر على المصاب عن تأثير مرض السرطان ذاته، إلا أن فتيات غزيات قررن الاستغناء عن جديلات شعرهن الطبيعي لدعم مريضات السرطان.
أكثر من 50 سيدة حتى اللحظة شاركن بالمبادرة التي انطلقت قبل شهر ونصف وما زالت مستمرة بقص جديلات وخصل من شعورهن، بمبادرة أطلق عليها اسم "خصل الأمل" تحت شعار "شعرك يرسم بسمة لغيرك".
"ماذا أقول؟.. مررت بأربعة أشهر صعبة، لقد نحل أكثر من نصف شعري في غضون ثلاثة أيام؛ في البيت لا أظهر أمام أطفالي الثلاثة وزوجي إلا بغطاء الرأس ولا أسمح لهم برفعه، فأنا لم أتقبل شكلي أمام المرآة، فكيف سأقبل أن أكشف نفسي أمامهم؟"، قالتها أبو نادي لصحيفة "فلسطين" بصوت متألم تعبيرًا عمَّا تمر به.
"أتدري؟" -تتابع قولها-: "شعرت بنوع من التعويض حينما تبرعت لي إحدى السيدات بباروكة شعر، وكانت تشبه لون شعري الأصلي".
"هكذا لن يختلط الأمر على أطفالي، الذين لا يعرفون أنني بلا شعر"، لعلها هنا تلخص جزءًا من معاناتها.
تريد هذه المصابة أن يبقى أطفالها يرسمون في أنفسهم صورتها الأولى قبل الإصابة، ولا تخفي: "حينما أريد رفع غطاء الرأس ووضع الشعر المستعار أغلق غرفتي لأضعه دون أن يراني أطفال".
لكن هل استسلمت أبو نادي لهذا الواقع؟ بعدما كادت الدموع تسقط منها، صمتت برهة ثم تماسكت: "إنني على إيمان أن هذا ابتلاء من الله، أحيانًا من شدة قوة جرعة الكيماوي أظل ستة أيام متعبة، والتي أحصل عليها كل 20 يومًا، لكنني أتحدى المرض لأجل أطفالي، بعدما أصبت بسرطان الثدي قبل أربعة أشهر.
"الحياة تعود لمريضة السرطان عندما تجد شعرًا طبيعيًّا جديدًا على رأسها"، بهذا انتهى حديثها، لكن لم تنتهِ الحكايات!
"الحياة بلا شعر صعبة.. أن يكون إنسانًا طبيعيًّا وله شعر من ثم يفقده، فذلك دمار له ولأهل بيته، لكنني سأضع شعرًا غير شعري الذي تساقط، وما أجمل الشعور الذي يدور داخلي، بأن إنسانًا لا نعرفه شعر بنا.. هذا هو الترابط الحقيقي (...) سعيدة جدًّا لأننا سننتج (البواريك) وسنعوض أنفسنا عن شعرنا الذي تساقط".. هذه المرة الكلام لمها لولو (51 عامًا) وهي مريضة سرطان تدربت مع مجموعة من المصابات بذات المرض على صناعة "البواريك" ضمن نفس المبادرة.
تقول لصحيفة "فلسطين": "سنتعلم كيف نصنعها بأيدينا، من شعر طبيعي على عكس التي يتم شراؤها جاهزة ولا نعلم جودتها، ليصبح بعد ذلك لنا مشروعنا الذي سنعمل من خلاله على تعليم آخرين كيف يصنعون الباروكة".
قرار.. دون تفكير!
أمام شاشة هاتفها المحمول تجلس المتبرعة سمية إبراهيم (33 عامًا) لتراقب ما ينشر على المجموعات النسائية الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث وجدت أمامها منشورًا لإحدى السيدات وتظهر فيه بأحد صالونات التجميل بغزة وتدعو النساء للمشاركة في التبرع بشعورهن لدى جمعية "بسمة أمل".
هل ساور إبراهيم التردد قبل القرار النهائي بقص الشعر؟ تقول عن ذلك: "بالعكس؛ كنت متحمسة بأن أذهب باليوم التالي لأتبرع بشعري، وكنت في هذا العام لأول مرة أطيله بهذا الشكل، لكن في آخر اللحظات كنت أتذكر كلام البعض الذي يغريني لإبقائه طويلًا.. وفي النهاية حسمت القرار!، ولم أتردد ولو أطلته مرة أخرى فسأتبرع به".
"الشعر زينة لأي سيدة؛ وأنا سعيدة أن هناك من استفاد من الخصلة والسعادة الأكبر.. أنها مريضة سرطان"؛ تتابع حديثها.
حينما وصلت إبراهيم أحد صالونات التجميل، طلبت قص شعرها خصلة كبيرة مرة واحدة، وهو ما أثار اندهاش المصففة: "ليش هيك.. ما تقصيه شعرك طويل"، فابتسمت إليها: "بدي أتبرع فيه لمريضة سرطان".
تتابع إبراهيم في حديثها مع صحيفة "فلسطين" عن ذلك الموقف: "بعد أن نظفت شعري وصففته بطريقة لائقة، رفضت إدارة صالون التجميل أخذ أجرة قص الشعر، وذلك لتشجيع النساء الأخريات على ذلك".
بمجرد أن تقف أمام باب جمعية بسمة أمل، ستجد أمامك رسومات وحبال زينة، للوهلة الأولى ستعتقد أنك في رياض أطفال، لكن بالتمعن أكثر في مضمون هذه الرسومات والأشكال ستعرف أنها لإعطاء دعم نفسي للمرضى، فلا يكف المراجعون هنا عن التوافد على هذه الجمعية المختصة في دعم مرضى السرطان.
مبادرة قد تتحول لمعمل
بعد أن أنتهى من أعماله مع المرضى وكانت كثيرة، يقول المدير التنفيذي لجمعية "بسمة أمل"، خالد لافي: مبادرة خصل الأمل انطلقت منذ شهر ونصف وشاركت فيها حتى اللحظة أكثر من 50 سيدة، متزامنة مع برنامج تدريبي لمدة شهر لتدريب السيدات مريضات السرطان على إنتاج وتصنيع الشعر المستعار في ظل ارتفاع ثمن الخصل الصناعية التجارية.
ويضيف لافي لصحيفة "فلسطين": "بعد الإقبال الكبير على المبادرة، تسعى جمعية بسمة أمل لإيجاد دعم وتمويل لتأسيس معمل يتم من خلاله إنتاج مستلزمات مريضات السرطان كالشعر المستعار".
"هذه المبادرة حظيت بانتشار كبير ورواج، وهناك أشخاص يستفسرون عنها من الخارج، لم نتوقع هذا النجاح؛ وهذا الإقبال" كما يقول، مبينًا أنه واجهتهم عدة إشكالات في صناعة الشعر المستعار، ما جعل المؤسسة يحاولون تطوير الفكرة لإنشاء معمل لصناعة البواريك.
المبادرة، والكلام للافي، حلَّت مشكلة كبيرة لدى مريضات السرطان بأن تحافظ على جمالها وأنوثتها أمام زوجها وأولادها، وفي المجال الاجتماعي أصبح لديها حرفة وتستطيع صناعة الشعر المستعار وبيعه.
وفي فبراير/ شباط الماضي لفت رئيس قسم علاج الأورام في مستشفى عبد العزيز الرنتيسي في غزة، الاستشاري د. خالد ثابت، إلى زيادة مطَّردة في عدد المصابين بمرض السرطان في قطاع غزة، مبينًا أن وزارة الصحة تستقبل شهريًّا 120-130 حالة سرطان تشخص حديثًا كل شهر، واصفًا واقع هذا المرض بأنه "مرير"، كما حذر من نقص في إمكانات علاجه في القطاع.