في هذه العجالة المباركة سأتحدث عن بعض دلالات هذه الرحلة من خلال النقاط التالية :
أولاً : توقيت الرحلة .
الرحلة كانت في أصعب الظروف التي مر بها الحبيب محمد عليه السلام ، فهو خلال العشر سنوات الأولى من دعوته تعرض إلى حرب شعواء هو وأصحابه، فمن التكذيب والحرب الإعلامية إلى التعذيب للأصحاب، والنبي الكريم يمر على أصحابه يتعذبون ولا يملك لهم شيئاً، تدور نظراتهم نحوه فيتعذب بعذابهم ، ويتألم لآلامهم ، ثم يشتد الأمر على النبي وصحابته عندما حاصرهم أهل قريش بشعب أبي طالب ، إذا تكذيب وتعذيب وحصار اقتصادي ، يبحث النبي الكريم عن الفرج خارج مكة فتتجه أنظاره نحو الطائف ، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف رجاء أن يؤووه وينصروه واصطحب في رحلته هذه زيداً مولاه ، ولما وصل الطائف بعد ستين ميلاً مشياً على الأقدام عرض نفسه على أشرافهم لعله يجد منهم منعة أو نصرة فنالوا منه وأساءوا له ، وأقذعوا في حقه وأذاقوه أشد من قومه وسلطوا غلمانهم وسفهاءهم عليه فرموه بالحجارة حتى دميت قدماه الشريفتان وزيد يقيه بنفسه ، وكان في عرف العرب أن من مات بسبب إيذاء لرجليه أو ما شابه ذلك من المواطن التي ليس فيها مقتل فليس له دية ؛ لأنه لا يقتل من هذه المواطن إلا الذليل في عرفهم ، واستمر السفهاء يلاحقونه حتى ألجئوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ظل شجرة عنب فجلس تحتها مستظلاً بها ، وقام فصلى ركعتين و ناجى ربه قائلاً : « اللهم إني أشكو اليك ضعف قوتي وهواني على الناس ، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين الى من تكلني ، الى عدو يتجهمني ، أم الى قريب ملكته أمرى ، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي ، و لكن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك ، أو يحل بي سخطك ، لك العتبى حتي ترضي ، ولا قوة الا بالله . »
في هذه الأجواء وفي ذلك التوقيت بالذات بدأت رحلة السماء ، وكأن الله عز وجل يقول لمحمد عليه السلام : يا رسول الإنسانية إن حاربتك الأرض فهذه السماء بكل أهلها ترحب بك ، وتستقبلك استقبالاً فيه من التكريم والتشريف ما لم ينله أحد من البشر .
هنا أود أن أذكر لطيفة مهمة ، وهي أن القرآن الكريم في ترتيب سوره توقيفي ؛ أي أن السور والآيات رتبت بهذا الترتيب الذي بين أيدينا من خلال الوحي .
والمعلوم أن سورة النحل تسبق سورة الإسراء ، جاءت آخر آيات من سورة النحل لتحكي حال النبي عليه السلام قبل الإسراء وطبيعة الحرب القائمة في حقه وحق أصحابه وجاءت بداية سورة الإسراء لتحكي بداية الفرج .
يقول الله سبحانه وتعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ، سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )
هذا الترتيب القرآني يحكي الحدث بكل دلالاته في آخر سورة النحل وأول سورة الإسراء ، إنها حرب الأرض وترحيب السماء ، وقد استخدم القرآن للدلالة على معجزة الإسراء لعظمتها صيغة التسبيح ( سبحان ) وهي صيغة على وزن فعلان التي تفيد الامتلاء ، بمعنى أن هذه المعجزة اقتضت صيغة تسبيح تستوعب الزمان المكان والأكوان ، وهذا بخلاف صيغة سبح الدالة على الماضي أو صيغة يسبح الدالة على الحاضر أو صيغة سبح الدالة على المستقبل .
واستخدام هذه الصيغة مع حادثة الإسراء والتي تحمل مطلق التسبيح في كل وقت ومن كل ذرة في الكون إنما يدل على عظمة هذا الحدث ودلالاته المتنوعة .
الوقفة الثانية : هل لنا نحن أيضاً رحلة تسرية لنا في القرن الخامس عشر .
كما بينت أن آخر سورة النحل طالبت النبي الكريم وصاحب الرسالة بالصبر والاحتمال بعيداً عن الحزن الشديد الذي كان يغمره مما يرى من إعراض وكيد بالرسالة وأهلها ، وبينت الآيات أن معية الله هي مع المحسن والمتقي ، وهذا المعية حتماً ستنصر أهلها مهما كانوا ضعفاء ومهما اشتد الكيد والمكر حولهم ، وكان أو مظاهر النصر والتأييد لصاحب الرسالة بعد هذه الآيات هي بإكرامه برحلة الإسراء كما بينت أول آية في سورة الإسراء .
ونحن الآن نعيش نفس دلالات آخر آيات سورة النحل حيث يعيش المسلم غربة شديدة وحيرة وتيه ومكر تزول منه الجبال ، يعيش حالة من التكذيب والحرب الإعلامية وحالة من التعذيب وحالة من الحصار والإحصار حتى لفكره ، ولسان حال الآيات يخاطبنا قائلاً اصبروا وما صبركم إلا بالله .
لكن يأتي تساؤل ، هل لنا إسراء كما لصاحب الرسالة ؟ سبحان الله لقد تضمنت سورة الاسراء بشارتين : الأولى لصاحب الرسالة برحلة الإسراء تسرية لقلب النبي عليه السلام ، والثانية لأهل هذا القرن عند اشتداد الكيد بهم حيث جاءت الآيات بما تحمله من تسرية لقلوبهم لتقول لهم مهما بلغ علو اليهود وكانوا الأكثر نفيراً فالعاقبة ستكون لأهل الحق (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً )
فالإسراء وهي الرحلة ليلاً لصاحب الرسالة كانت تسرية وتفريج لصاحب الرسالة بعد ضيق وحزن وكيد شديد ، ليرى من آيات ربه الكبرى .
والتسرية على أهل هذا القرن تضمنته نفس سورة البشارة سورة الإسراء ببيان أن كل كيد اليهود وتمكنهم لا محالة سينتهي على يد ( عباد لنا )
الوقفة الثالثة : البيت الأول والبيت الثاني .
رحلة الاسراء كانت من البيت الأول إلى البيت الثاني من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، لماذا ؟ لم يعرج النبي عليه السلام من المسجد الحرام وهو أعظم بقعة في الأرض ، هذا له دلالات كثيرة لا تستوعبها هذه العجالة ، لكن من هذه الدلالات التي استوعبتها من خلال دراستي أن بوابة السماء هي فوق المسجد الأقصى ، والرحلة الأرضية كانت مطلوبة لكي يدلل النبي عليه السلام على مصداقية رحلته ؛ حيث أخبر من حوله من صحابة ومشركين عما رآه في رحلة الإسراء من قوافل ونحوها .
المهم هنا قضية أحب أن اطرحها هنا وهي مسألة البيت الأول والبيت الثاني ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى» قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً . [ أخرجه مسلم ]
فالحديث صريح أن البيت الأول الذي وضع للناس المسجد الحرام والبيت الثاني المسجد الأقصى.
قبل العالمية الأولى للإسلام والتي بدأت بصاحب الرسالة وفي عام ميلاده كان هناك مكر وكيد بالبيت الأول لهدمه من أهل الكتاب النصارى ( أبرهة الحبشي ) وكان أهل البيت ضعفاء عن نصرته فقال كبيرهم عبد المطلب جد النبي ( للبيت رب يحميه ) فكانت آية الله وحمايته بقصة طير أبابيل .
إذا هذا حال العالمية الأولى للإسلام والعالمية الأولى ابتدأت بالنبوة والخلافة على منهاج النبوة ثم انقطعت بالملك العضود والحكومة الجبرية لتبدأ العالمية الثانية للإسلام بعودة الخلافة الراشدة بعد الحكومة الجبرية .
إذا قبل العالمية الأولى للإسلام كان هناك كيد ومكر من أهل الكتاب نحو البيت الأول.
والآن قبل العالمية الثانية للإسلام نجد نفس الكيد والمكر من أهل الكتاب لكن بالبيت الثاني وهو المسجد الأقصى ، قبل العالمية الأول كان المكر بالبيت الأول ، وقبل العالمية الثانية كان المكر بالبيت الثاني ، أهل المكر في الحالتين هم أهل كتاب في الأولى نصارى والثانية يهود والهدف النهائي هدم البيت وبناء الهيكل .
قبل العالمية الأولى كان أهل البيت وحماته ضعفاء لذا لسان حالهم للبيت رب يحميه فكانت طير أبابيل ، قبل العالمية الثانية أهل البيت هم أكثر من مليار مسلم ويمتلكون إمكانات هائلة جداً ، لكن هناك تواطؤ وخنوع وتضييع للبيت وترك الدفاع عنه لفئة قليلة من سكان بيت المقدس يسامون يومياً جميع أشكال التضييق ، مليار مسلم يتركون حماية أعظم بيت مقدس لديهم لجمع من الضعفاء والمستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة ..... الأصل أن تقوم الأمة بحماية البيت من باب المعذرة بين يدي الله لكن هناك دفن للرأس في الأرض هناك تخاذل والأقصى الآن في أقصى درجات الخطر وفي اللحظات الأخيرة ، لكن إن استمر التواطؤ والخذلان ، فأقول مستسلماً للبيت رب يحميه ، واظن أن هذه المرة لن تكون طير أبابيل ولكن قد تكون الحدث الكوني كما فسرته خلال المدونة ؛ حيث ارتبط الحدث برجسة الخراب في المكان المقدس .