السؤال الأول: ما الحكمة من إيراد تفاصيل كرم لم يصل لأصحابه؟ وما الغرض من إشباع القرآن للموضوع في سورتين؟
قد يجاب عن ذلك بأن إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله إماماً وأمة لوحده ومعلماً من معالم التربية والتزكية على مدار التاريخ وصاحب الملة أراد القرآن بهذا الحدث التركيز على جانب من جوانب حياته غير التوحيد والتضحيات، إلا وهو جانب القيم الذي يتربع في قمتها الكرم والسخاء.
فإبراهيم عليه السلام كان أمة في التوحيد وكان أمة في القيم والأخلاق، القرآن فصل في جانب التوحيد والتضحيات، وجاء هذا الحدث ليركز على جانب القيم والأخلاق في حياته .
وقد يجاب أيضاً عن ذلك بأن الله عندما قال إني جاعل في الأرض خليفة، وتعجب الملائكة من ذلك وذكروا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، هنا جاء درس عملي لنا وللملائكة ليروا بأعينهم ولنرى بأم أعيننا جانباً من جوانب علم الله بالإنسان والذي خفي على الملائكة ولم يذكروا إلا الجانب السلبي ، هنا جلسوا ساعات طوالا ورأوا شيخاً طاعناً في السن وهو يعد لهم الطعام ، بل أطيب ما عنده وبأكمل صورة وأبهاها ، وهو لا يعرفهم ، وقد اختار الله لهذا الدرس من البشر أكملهم وصاحب الملة وعنوان الأمة البشرية ومظهراً كاملاً من مظاهر خلافة الإنسان في الأرض .
إذاً هذه القصة جاءت كأحد التفاسير لقول الله تعالى للملائكة : إني أعلم ما لا تعلمون .
وقد يجاب عن ذلك بأن السخاء بالذات يعد من الصفات المهمة التي يقوم عليها صلاح الدين ، وهذا المعنى ورد في آثار كثيرة أذكر منها هذا الأثر لأهميته بالرغم من ضعفه ، عن جَابِر بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «هَذَا دِينٌ ارْتَضَيْتُهُ لِنَفْسِي، وَلَنْ يُصْلِحَهُ إِلَّا السَّخَاءُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» ) ([1])
لذا جاء التفصيل في قصة إبراهيم عليه السلام مع الملائكة لأنها تبرز جانب السخاء بأبهى صوره ، والقرآن كتاب هداية وإصلاح ، لذا فصل في هذه القصة التي تمثل غاية من غاياته .
والعجيب في الأثر السابق أن النبي عليه السلام لم يقل قال الله تعالى ، بل قال سمعت جبريل عليه السلام يقول وهذا الأسلوب لم يتكرر في حدود ظني في الأحاديث القدسية الأخرى .. وجبريل عاين بنفسه سخاء إبراهيم عليه السلام .
السؤال الثاني : لماذا تركت الملائكة إبراهيم عليه السلام ليكمل إعداد الطعام وهي لا تأكل .
هنا مباشرة لا يتوارد إلى فكري إلا قول الله سبحانه وتعالى :[لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)]
فلئن لم ينل الملائكة من الملأ الأعلى من عجلك يا إبراهيم شيئاً، فمن باب أولى رب الملأ الأعلى ، لن يناله شيء من كل أعمالنا ، بل مرد الأعمال علينا نحن ، وإنما نظر الله هو للتقوى في الأعمال ، هذه التقوى التي يسجلها الله لصاحبها حتى يجازيه عليها يوم القيامة .
والمعلوم أن الملائكة تعد من أعظم القوى الدافعة للخير عند المؤمنين ، فكيف برؤساء الملائكة ، لذا أرادوا أن يسجلوا لإبراهيم فضيلة عظمى في زيارتهم له .. هذه الفضيلة حصلها إبراهيم عليه السلام ، ولم ينل منها الملائكة شيئاً ؛ لذا تركوه ليكمل فضيلته وينال خيراً عظيماً بزيارتهم في مجال التقوى والفضيلة .صحيح لم يأكل الملائكة من اللحم ، لكن حصلت الفضيلة والأجر لإبراهيم عليه السلام بأبهى الصور وهذا هو مقصد الحياة الدنيا.
ولو رجعنا للآية السابقة نجد أن آخرها بعد التضحية جاءت البشارة ، ( وبشر المحسنين .. وكأن الآية في ثناياها ترشدنا للقانون الإلهي ، لذا بعد تضحية إبراهيم بالعجل وإحسانه مع ضيفه جاءته البشارة مباشرة ( وبشروه بغلام عليم ) .
كذلك هذا الدرس علمني كيف يسوق الله الرزق للعباد من حيث لا يحتسبون ، وهنا نحن لا نفهم كيف تدور عجلة القدر ، وكيف تقسم الأرزاق ، فالمعلوم أن المستفيد الأكبر من هذا العجل هم غلمان إبراهيم عليه السلام ، حيث نالوا رزقاً غير متوقع ومن أنفس مال إبراهيم عليه السلام ، حيث يتصور أن العجل حمله الغلمان بعد الحادثة ليكون من نصيبهم وحظهم ... نعم قد يتصورون أنهم سيأكلون مما يتبقى ، لكن لم يكن يخطر ببالهم أن العجل برمته وبشحمه ولحمه سيكون من نصيبهم هم .. وهكذا أرزاق الله تساق للإنسان حتى من حيث لا يحتسب .
وقد يكون لسان حال جبريل مع إبراهيم عليه السلام هو يا إبراهيم أكرمتنا بعجل وأكرمناك ببشارة الولد .. وغداً تسجل فضيلة عظمى في الاستعداد لذبح ولدك لله فأرجع إليك وأكرمك بدل العجل بكبش عظيم .. فعجل سمين أرضي يقابله كبش عظيم سماوي .
هذه بعض المعاني السطحية التي تراءت لي في مسألة عجل إبراهيم عليه السلام ، مع قناعتي أن هناك معاني أعمق وأوسع بكثير تتلفع خلف هذا الحدث العظيم ، فالمكث الملائكي النوراني الطويل في رحاب إبراهيم عليه السلام قد يكون له آثاره الخفية علينا ، لكن هذا جهد المقل والله أعلى وأعلم .