فلسطين أون لاين

"شعلة البيت" يوم أن رحلت طلب والدها الأجر من الله

...
خلال مراسم العفو
غزة/ يحيى اليعقوبي:

تتجهز سندس أبو ارتيمة (9 سنوات) في الصف الثالث لحفل تكريم أوائل الطلبة في المرحلة الابتدائية بمدرسة تتبع وكالة الغوث (أونروا) في الحي السعودي جنوب غربي مدينة رفح، كانت تستعد مع معلماتها للتدريب على أداء فقرة خاصة بها، بعد جهد وتكرار محاولات استمرت عدة ساعات، كان قلبها يخفق من شدة فرحها بالحفل، تنتظر تسلم شهادة التفوق.

في لحظة يمكن أن يتغير فيها كل شيء نتمنى حينها لو تعود عقارب الزمن للوراء. في ذلك اليوم 12 شباط (فبراير) 2019م بعدما انتهت "البروفة" التحضيرية للحفل، غادرت سندس المدرسة مع بنات عمها، عائدة إلى بيتها القريب، على مفرق طرق مجاور لمسجد "نظام علي خالد" قطعت ابنة عمها الأولى الطريق، ثم قطعت الثانية، وحان دور سندس.

هذه الطفلة المرحة هي أصغر أبناء عائلتها، تتميز ببرها بوالديها، لا تغادر البيت إلا بتقبيل يديهما، وكذلك حينما تعود، تمثل لوالديها "شعلة البيت"، مدللة عند والديها وإخوتها، متفوقة بدراستها، تحب القراءة، والرسم، والإلقاء على الإذاعة المدرسية.

سندس مرهفة الإحساس، فبعد أن انتقلت إلى الصف الثالث ظلت مرتبطة بمعلمتها في الصف الثاني، من شدة حبها وعطفها عليها، فكانت لا تذهب إلى فصلها الجديد دون المرور بمعلمتها السابقة والجلوس معها.

بالعودة إلى مشهد قطع الطريق، ظنت سندس أن المسافة بينها وبين السيارة القادمة من بعيد كبيرة كي تقطع الطريق بأمان وسلام، وتصل إلى الرصيف الآخر، حيث بنات عمها يلوحن لها: "يلا تعالي"، قطعت الطريق بخطواتها المسرعة، لكن فرامل السيارة التي يقودها شاب صغير جديد العهد بالقيادة كانت أسرع للوصول إليها وصدمها؛ فوقعت على رأسها.

والدة سندس استشهد شقيقها محمد أبو نقيرة في تسعينيات القرن الماضي، واستشهدت والدتها وشقيقها وابن شقيقها في انفجار عرضي حدث بمدينة رفح قبل نحو ثلاث سنوات، تنتظر عودة ابنتها بصبر نافد، تخشى عليها حتى "من الهوا الطاير"، فماذا فعلت حينما علمت بالحادث؟

يرن هاتف عبد الله أبو ارتيمة (49 عامًا) وهو والد سندس ويعمل في جهاز الشرطة بقطاع غزة، رد على عجل: "بنتك صار معها حادث" انتهى الاتصال، وبدأت التساؤلات الداخلية تجتاح تفكيره، اتصل بابنه ليتفحص حجم الإصابة، وسبقهم هو إلى مستشفى أبو يوسف النجار، يعود أبو ارتيمة في حديثه مع صحيفة "فلسطين" لتلك اللحظة: "وصلت قبل سيارة الإسعاف، وبعدها وصلت في حالة خطرة".

سندس في غرفة العمليات، لحظات صعبة وقاسية مرت على قلب والدها، خرجالطبيب من غرفة العمليات، توحي نظرات عينيه الحزينة أن سندس فارقت الحياة، يسأله والدها: "طمنا"، رد عليه الطبيب بتنهيدة وجع: "عظم الله أجركم"، تقبل الصدمة صابرًا: "نسأل الله أن يجعلنا من الصابرين"، لكنه يخفي احتراق قلبه من الداخل.

أمام حالة وفاة نتيجة عدم مبالاة سائق، يسأله شقيقه في لحظة حزن وغضب: "ماذا ستفعل؟"، يحاول والدها التماسك: "سأعفو عن السائق (...) جعلنا ربنا من العافين عن الناس، وسأبتغي الأجر غير منقوص من الله"، شقيقه مندهشًا ونيران الغضب توقد بداخله: "ماذا؟!، لكنها دعست في رأسها، يا أخي؟!"، تمسك بموقفه: "نحن مؤمنون بقضاء الله، لو ما توفيت بالحادث كانت ستموت".

وبعدها عاد إلى البيت وظل باله مشغولًا كيف سيخبر زوجته التي فقدت ما فقدت من عائلتها، يكمل: "عدت إلى البيت فوجدتها ساجدة تصلي، وقد علمت تفاصيل ما جرى، ولما أحضرنا جثة سندس التي خرجت تبتسم، رفضت الكشف عن وجهها المشوه من الحادث لوداعها، وقالت: (أريد أن أحتفظ بنظرتي الأخيرة لها وهي خارجة من البيت)".

في مغرب ذلك اليوم، دفنت سندس التي لم تر الدنيا كما يقولون، رحلت ولم تعش حتى طفولتها، ودعت إلى مثواها طائرًا يحلق في السماء، خلال مراسم الدفن أمسك والدها مكبر الصوت (الميكروفون) ثابتًا محتسبًا مخاطبًا الناس: "أعفو لوجه الله (عز وجل) عن السائق من عائلة "العفيفي" ... لا أريد أي شيء، وأسأل الله أن يجعلنا من الصابرين".

بعد ثلاثة أيام من العزاء جاء مخاتير محافظة رفح وشرطتها وقيادات فصائلية، وأعلنت ورقة صلح مباشر، وعفو كامل، وتنازل والد سندس عن حقوقه كافة، وأطلقت الشرطة سراح السائق.