فلسطين أون لاين

​خلال مجزرة إسرائيلية بحق عائلة "المدهون"

في "أكثر الأماكن أمنًا" قُتل "أيمن" قبل أن يُولد

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

دقات قلب أماني تضطرب؛ بعد قيام بعض الجيران بإخلاء بيوتهم بالمنطقة الغربية لـ "بيت لاهيا" شمال غرب القطاع، تحديدا قرب "المدرسة الأمريكية" سابقا، كونها بعيدة عن الأحياء المكتظة، تفصح عما بداخلها لزوجها محمد المدهون: "بدنا نطلع من المنطقة" كأنه حدس أو استشعار داخلي باغت تفكيرها، لكنه طمأنها: "بيتنا هو أفضل مكان آمن لنا".

أطفأ كلامه لهيب توترها المشتعل منذ الصباح .. "خلص بدي أروح أنام"، وقبل أن تخلد للنوم بدت سعيدة بقرب وضعجنينها"أيمن" كان مقررا إبصاره النور بعد أسبوعين إذ دخلتأمه في الشهر التاسع.

تحت أصوات القصف الإسرائيلي، وصوت طائرات الاستطلاع "المزعج"خلدت أماني وجنينها في غفوة قصيرة عصر الأحد الخامس من مايو/ أيار 2019م، وبجوارهانام أطفالها الثلاثة أكرم (5 سنوات)، ومحمود (4 سنوات) وفاطمة (عامان ونصف).

هذا المنزل الواسع الممتد على مساحة 500 متر يضم ثلاثة بيوت للأب عبد الرحيم المدهون (61 عاما) ويعش معه ابنه عبد الله (22 عاما) وبيتين لأولاده المتزوجين محمد وأحمد.

قبل "الدمار"

يجلس الجد ببقالتهفي زاوية المنزل يعتاش منها، يحتضن إحدى حفيداته، في البيت المقابل لعائلة المدهون يجلس فادي بدران وهو أسير محرر أمضى ستة أعوام في سجون الاحتلال وصهر هذه العائلة على عتبات منزله ويحمله طفلته الصغيرة.

لا يزال محمد وضيوفه في صالة الاستقبال بمنزله، هكذا كان المشهد قبل أن تسقط صواريخ إسرائيلية مدمرة على منزل المدهون، دون سابق إنذار، دون اتصال للإخلاء، فجأة قتل الحياة.

صورة هذا المشهد تتحرك من جديد أمام محمد وهو يروي لصحيفة "فلسطين" ما حدث في هذه المجزرة : "لا زلت أتخيل صورة المشهد، كنت أجلس مع ضيفين قبل أن أسقي طفلي أكرم كأسا من الماء، وقبل أن أضع الكأس على الطاولة سمعت صوت الصواريخ ولم أر شيئا سوى غبار ولهيب أحمر، سقوف وجدران تنهار فوق رؤوسنا".

بعد دقيقتين انقشع الغبار تدريجيا، زحف محمد وضيوفه وأكرم من بين ممر ضيق بين الجدران لا يعرف كيف نجا من هذه الجريمة، وقد كسى لون الرماد شعرهم وملابسهم ووجههم، استطاع إخراج طفله من بين الركام، ليجد معظم المنزل مدمرا، بدأ بتفقد ما بقي في المنزل على قيد الحياة.

وصلت طواقم الدفاع المدني المكان، يكمل المدهون وعينيه تبرقان بالدموع لم يأذن لها أن تسدل حزنها على وجنتيه: "أشرت لمكان غرفة نوم زوجتي وأطفالي فاطمة ومحمود، بعدما انهارت عليهم جدران البيت على شكل طبقات (..) بدأنا برفع الحجارة وتلك الجدران".

من بين أنياب الموت، ومن تحت الركام وبين الرماد، انتشلت فرق الانقاذ محمود وفاطمة، ينبضان بالحياة، بحالة خوف شديد، يرتجفان، يبكيان، مصابان بصدمة، نقلا إلى المشفى للاطمئنان على صحتهما، لكن كانت أماني تحت الردم وقد اخترقت شظايا الصواريخ بطنها فقتلها وقتلت جنينها "أيمن" قبل أن يبصر الحياة، تمنت أن تره، وتسمع صوته، تداعبه، لكنها رحلت معه.

إصابات وجثث

حجارة متناثرة في كل مكان، مشهد الدمار كبيرا، يواصل محمد وفرق الانقاذ تفقد "الأحياء"، رفع ردما آخر فوجد شقيقه "عبد الله" جثة هامدة تغطيه الدماء وفوقه أكوام الحجارة، تدمرت بقالة والده الذي يعاني من مرض القلب وأصبحت أثرا بعد عين واستشهد والده وهو يحتضه حفيدته التي نجت، كان همهم حماية الطفلة التي نجت بأعجوبة.

صهرهم فادي بدران أصابته شظايا الصواريخ برأسه، لا يستوعب محمد ما حدث هنا: "رأيت فادي لحظة الاستهداف وهو يحمل طفلته المصابة اعتقدت أنه يحاول اسعافها وكانت تنزف من منطقة رأسها، إلا أنني تفاجأت باستشهاده في المشفى وقد أخبرت أن حالته تدهورت نتيجة إصابته بشظايا الصواريخ بمنطقة حساسة برأسه".

في لحظة كانت هذه العائلة تنعم بالأمن، تنبض بالحياة، بعضهم كان جالسا، وآخرون نائمون، فجأة اختلف المشهد بفعل صاروخ إسرائيلي من الحياة للموت، كل شيء تغير، اجتاح الصاروخ المنزل وأحاله ركاما، أزهق أرواح الأبرياء الأمنين في منازلهم، لا يعرف حدودا للطفولة ولا محرمات للإنسانية.

يقول المدهون على عتبات مسجد عز الدين القسام ببيت لاهيا قبل تشييع جثامين الشهداء: "قال لي الأطباء إن الجنين كان مكتملا وجاهز للميلاد لكن الصاروخ خطف روحه قبل إبصار الحياة".

امتلأت جنبات المسجد بالمصلين على أرواح الشهداء، ليختم المدهون بنبرة صوت غاصبة: "قتلوا أبرياء أمنين فوالدي مسن، كان بالبيت 12 فردا، لم يتم إخبارنا لا هاتفيا ولا بصواريخ الاستطلاع (الاستباقية) هذه جريمة بشعة فأين العالم والضمائر الحية منها؟".